عن الحلم بمنوال تنموي جديد في تونس
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
أثبت المنوال التنموي القائم في تونس فشله في إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي منصف ومتوازن، يضمن توزيعا عادلا للثروة، وحفظا لكرامة الإنسان وحقه في العيش الكريم. فتراجع دور الدولة الاجتماعية الراعية مواطنيها، واستفحال النمط الليبرالي والرأسمالي المتوحش، وتقاعس الدولة وعجزها عن فرض سيادة القانون ومقاومة الفساد، وتردّي الخدمات والمرافق من المؤسسات والهياكل العمومية، وتفاقم عجزها وتراكم ديونها، كلها عوامل أدت إلى زيادة نسب الفقر والبطالة في البلاد، وإلى تآكل الطبقة الوسطى، وتعمّق التفاوت الطبقي والاجتماعي بين الجهات والفئات، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن، وغياب العدالة الجبائية وتفاقم التهرّب الضريبي. ولم تعد المسكنات والحلول التلفيقية تُجدي نفعا لاقتصادٍ تداعت أسسه وركائزه الوطنية، ونخره التوريد العشوائي بفتح الباب على مصراعيه لكل البضائع والسلع والخدمات الأجنبية. ولم يعد إيجاد الثروة والتحفيز على الاستثمار وتوفير موارد الشغل سبيلا له للانعتاق من براثن المديونية والتبعية والارتهان للخارج.
تمكّن أخطبوط النظام الرأسمالي الفاقد للحصانة والترشيد من الفتك بكل مقومات الاقتصاد الوطني في تونس، من فلاحة وزراعة وصناعة وتجارة وخدمات، بل تمكّن أيضا من دوس كرامة المواطن، بتجويعه وتفقيره وتجهيله وحرمانه من المرافق الحياتية الأساسية. وتمكّنت أذرعه الممتدة عبر شركات عالمية عابرة للقارات، واتفاقيات شراكة اقتصادية غير متوازنة وغير متكافئة، ومؤسسات دولية مانحة، وعولمة تنتفي عبرها الحدود والقيود الديوانية، من بناء اقتصاد هش مرتهن للخارج، ومديونية متنامية ومخيفة، وتهميش للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتفاقم للاقتصاد الموازي وغير المنظم. الأمر الذي استوجب البحث عن بدائل منوال تنموي فاشل ومشلول، عبر تطوير قطاع ثالث إلى جانب القطاعين، العام والخاص، وهو قطاع الاقتصاد التضامني والاجتماعي.
يجب السعي إلى إيجاد فضاء اقتصادي مشترك، يتسع لجميع الفاعلين الاقتصاديين مهما تمايزوا
قطاع اقتصادي يتأسس على قواعد خاصة ومتميزة، من حيث أشكاله وأهدافه وطرق تكوين مؤسساته وتسييرها، والهياكل والآليات الكفيلة بإرسائه ومتابعته وتقييمه. ويعد دعامة أساسية لبناء منوال تنموي جديد، يتصدّى لمساوئ الأنظمة الليبرالية والرأسمالية، ويخفف من حدّة الطابع الفرداني والربحي في صلبها، ومن طغيان المادّة والأنانية المفرطة عليها. ويسعى إلى التأسيس لدولة اجتماعية راعية لمواطنيها، حريصة على توزيع عادل للثروات بين الفئات والجهات، وعلى صون كرامة الإنسان وإنسانيته، دولة تحرص على توفير المرافق الأساسية للمواطن، وتحسين الخدمات المقدمة له، بما يوفر له الرفاهة وجودة الحياة. كما يهدف إلى إدماج الاقتصاد الموازي وغير المنظم في صلب الدورة الاقتصادية، وإعادة هيكلته في المنظومة الرسمية للإنتاج، وإيجاد فرص شغل جديدة للشباب والفئات الهشة عموما.
ويعرّف القانون المصادق عليه حديثا (17/6/ 2020) الاقتصاد التضامني والاجتماعي بأنه منوال اقتصادي يتكون من مجموع الأنشطة الاقتصادية ذات الغايات الاجتماعية المتعلقة بإنتاج السلع والخدمات، وتحويلها وتوزيعها وتبادلها وتسويقها واستهلاكها التي تؤمنها مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، استجابةً للحاجيات المشتركة لأعضائها والمصلحة العامة الاقتصادية والاجتماعية، ولا يكون هدفها الأساسي تقاسم الأرباح، فهذا القطاع الاقتصادي لا يهدف، بصورة أساسية، إلى تحقيق الأرباح وتقاسمها، بقدر ما يهدف إلى تلبية الحاجيات الاجتماعية والاقتصادية المشتركة لأعضائه، وتحقيق المصلحة العامة، وفق منظور تشاركي تضامني منتج للثروة، وموزّع لها بصورة عادلة ومتكافئة، تقطع مع المناول الاقتصادية ذات الطابع الربحي الصرف، وتحقق التوازن بين متطلبات الجدوى الاقتصادية وقيم التطوع والتضامن الاجتماعي.
وتتخذ مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي أشكالا متعدّدة، تتمثل في التعاضديات، بما في ذلك الشركات التعاونية للخدمات الفلاحية، ومجامع التنمية في قطاعي الفلاحة والصيد البحري، الجمعيات التعاونية وجمعيات التمويل الصغير وشركات التأمين ذات الصبغة التعاونية والجمعيات الخاضعة للمرسوم عدد 88 لسنة 2011، والتي تمارس نشاطا اقتصاديا بغاية اجتماعية، والشركات باستثناء شركة الشخص الواحد ذات المسؤولية المحدودة وتجمع المصالح الاقتصادية، وكل ذات معنوية خاضعة للقانون الخاص، يمكن أن يحدثها المشرّع، وتخضع لمقتضيات قانون التضامن الاقتصادي والاجتماعي.
وتخضع مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي لطرق خاصة في التسيير والتنظيم، تتمحور حول جملة من المبادئ، لعل أبرزها أولوية الإنسان والغاية الاجتماعية على رأس المال واحترام قواعد التنمية المستدامة وتسيير ديمقراطي وشفاف، طبقا لقواعد الحوكمة الرشيدة وبالاعتماد على قاعدة صوت واحد لكل عضو، تعاون طوعي ومساعدة متبادلة بين مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وعضوية وانسحاب مفتوح وطوعي من دون تمييز وملكية جماعية غير قابلة للتقسيم، واستقلالية في التسيير تجاه السلطات العمومية والأحزاب السياسية، وربحية محدودة طبقا لقواعد خاصة. وتتمثل في ثلاث قواعد: إعادة استثمار جزء من الفواضل الصافية لضمان ديمومة المؤسسات وتطويرها، وتخصيص احتياطات مالية وجوبية غير قابلة للقسمة، وعدم توفير الفواضل أو توزيع محدود لها.
قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي ذو مضامين تعد منطلقا لثورة في منوال مجتمعي واقتصادي بأكمله، إذا استجاب لشروط المأسسة والحوكمة الرشيدة
قانون الاقتصاد التضامني والاجتماعي ذو مضامين اجتماعية واقتصادية مهمة، تعد منطلقا لثورة في منوال مجتمعي واقتصادي بأكمله، إذا استجاب لشروط المأسسة والحوكمة الرشيدة. ولكن الخشية أن يفرغ القانون في تونس من محتواه، ويتحول إلى مجرّد قواعد قانونية صماء غير قابلة للتفعيل، إذ يعتبر قانونا إطاريا ومرجعيا، ما يطرح إشكالات تطبيقية عديدة تجعله رهن صدور النصوص القانونية التفسيرية والتوضيحية الملائمة للمناخ الاقتصادي والاجتماعي، والقادرة على تنزيله على أرض الواقع. كما أن جدوى القانون وفاعليته تبقيان مرتبطتين ارتباطا وثيقا بتركيز الإطار المؤسساتي الضامن لتطويره وحوكمته، والمتمثل أساسا في تركيز الهياكل التمثيلية لمؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي، على المستويات المحلية والجهوية والوطنية، وإرساء المجلس الأعلى للاقتصاد التضامني والاجتماعي.
أضف إلى ذلك أن تعدّد الأنظمة القانونية الخاصة التي تخضع لها مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي قد يطرح تعقيدا في الإجراءات، وتفككا وتشتتا على مستوى النظام القانوني، وينشئ بذلك صعوبة لدى الباعثين والمستثمرين في استيعاب المنظومة التضامنية، وتنزيلها على أرض الواقع، عبر اختيار النظام القانوني الأنسب والأكثر تلاؤما مع مجالات النشاط الاقتصادي المرادة ممارسته. كما يطرح هذا التشتت والانفجار القانونيان إشكالات تتعلق بفاعلية المتابعة والمرافقة لهذه المؤسسات وللبرامج والمشاريع والخطط المتعلقة بالاقتصاد التضامني والاجتماعي، ومدى تنفيذها وإمكانات تسليط رقابة عليها من الهياكل التمثيلية والسلط الإدارية المختصة، إذ تخضع التعاضديات والشركات التعاونية للخدمات الفلاحية، والجمعيات التعاونية ومجامع التنمية في قطاعي الفلاحة والصيد البحري للتشاريع الخاصة الجاري بها العمل، وتحافظ بذلك على أنظمتها القانونية الخصوصية. ومما لا ريب فيه أن توحيد النظام القانوني الذي تخضع له مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي، وتبسيط إجراءات تكوينها وتسييرها، يعتبر شرطا أساسيا لنجاحها، ووضعها قيد النفاذ والتجسيد الفعلي، ولتحفيز المستثمرين وأصحاب المشاريع للانخراط في هذه المنظومة.
وبالإضافة إلى توفير الإطار التشريعي والمؤسساتي الملائم، يتطلب وضع منوال تنموي جديد (بركائز ثلاث مكملة ومتكافئة، القطاعين الخاص والعمومي والاقتصاد الاجتماعي والتضامني) توفير مناخ اقتصادي ملائم قادر على استيعاب هذا القطاع وتثمينه، من خلال التصدي لكل الممارسات التنافسية القائمة على الهيمنة والإقصاء والساعية إلى تهميش هذا القطاع، باعتباره يقوم على آليات وقواعد تسيير وتنظيم مختلفة وأهداف مغايرة للنظام الرأسمالي، القائم على هيمنة الشركات الكبرى واقتصاد السوق.
تعدّد الأنظمة القانونية الخاصة التي تخضع لها مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي قد يطرح تعقيدا في الإجراءات، وتفككا وتشتتا على مستوى النظام القانوني
كما يستوجب تركيز منوال تنموي جديد إقرار حوافز للاستثمار في هذا القطاع وتطويره، سيما على صعيد تمويل مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي. وقد تطرّق القانون إلى مسألة التمويل، وأفردها بأحكام خاصة، تتمثل في تخصيص خطوط تمويل لدى المؤسسات المالية لتمويل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وتخصيص نسبة من الطلبات العمومية لفائدتها، مع احترام مبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص، وإحداث آلية ضمان تسمّى خط ضمان التمويلات، تهدف إلى ضمان القروض وكل أصناف التمويلات المسندة لفائدة هذه المؤسسات.
محصل القول إن السعي إلى إيجاد فضاء اقتصادي مشترك، يتسع لجميع الفاعلين الاقتصاديين مهما تمايزوا، ضمن قواعد تنافسية تقوم على المأسسة والحوكمة والعدل والإنصاف واحترام القانون وتكافؤ الفرص، يعد ضمانة أساسية لفاعلية القانون المتعلق بالاقتصاد التضامني والاجتماعي، ولإقامة منوال تنموي جديد.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية