17 أكتوبر 2024
عن الدكتاتور العربي
على الرغم من حضوره المكثّف في المجال العام، لم يحظ الدكتاتور العربي بحقّه من الدراسة النقدية الرصينة والتحليل الموضوعي المعمّق. والحال أنّ له ماهية، وأدوات للظهور والصعود، واستراتيجيات لضمان البقاء والهيمنة. ويلاحظ دارس تاريخ العرب خصوصا، والاجتماع الإسلاميّ عموما، منذ عصر بني أميّة إلى حدّ منعطف الألفيّة الثالثة، أنّ الحاكم يتقلّد غالبا مقاليد السّياسة، ويتولّى أمور الخلافة بالتّوارث أو بالغصب أو بالانقلاب أو بالتّأييد من جهاتٍ تقع خارج البلد. ونادرا ما تجد زعيما اختاره الشعب، أو فوّضه أمره في غير جبر أو إكراه أو تزييف أو تزوير أو ترهيب أو مزايدة، فالحاكم في تاريخنا، غالبا ما لا يُنتخَب، ولا تفرضه نتائج صناديق الاقتراع، أو حتّى حالات الشّورى والتوافق الجماعي، بل هو شخص منصّب، ينتزع المُلك انتزاعا، أو يصل إليه مصادفةً أو عن طريق الوراثة. فيتولّى في معظم الحالات السّلطة بقوّة العصبيّة أو المال أو الجاه أو بقوّة الأسرة أو العسكر.. ويأتي غالبا من خارج الحراك الاجتماعي والسّياسي، ليخدم مصالح فئة مخصوصة، أو جهة معلومة في الدّاخل أو الخارج. كما قد يركب حركات التحرّر الاجتماعي وثورات النّاس، فيتبنّى أحلامهم ومشاغلهم إلى حين، حتّى إذا أمسك بمقاليد الحكم، أعاد ترتيب الأمور وِفق ما يريد وأتباعه، لا وِفق ما يريد جمهور النّاس. فترى أغلب حكّام العرب والمسلمين، إذا استتبّ لهم الأمر، ودانت لهم العامّة، انصرفوا إلى تركيز نفوذهم، وتوسيع مجال هيمنة أقاربهم وأفراد بطانتهم، ولا يبالون بحاضر عامّة النّاس أو مصيرهم، فهم يعتبرون المجتمع، على كثرة أفراده، كيانا منزوع الإرادة، تابعا لهم، لا يكتمل وجوده إلاّ بوجودهم. فدرج الحاكم المستبدّ وأعوانه على اعتبار أنفسهم ركيزة البناء المجتمعيّ، ونواة الانتظام العمرانيّ والحضاريّ للدّولة. ومهمّة المحكومين في نظر الدّكتاتور هي إعلان الولاء ولزوم الطّاعة، حفاظا على سلامة البيضة واستمرار السّيادة واتّقاء شرّ الفتنة، والخروج على هذا النّهج بالاحتجاج على الدكتاتور أو الثّورة عليه مدعاة للهلاك لا محالة،
فالمستبدّ يُمعِن في التّنكيل بكلّ ثائر، ويبدع في تشويه كلّ محتجّ. لذلك، لا عجب في التاريخ العربي المعاصر أن ينعت الجنرال زين العابدين بن علي الخارجين عليه بالخونة، وينزع عنهم صفة الوطنيّة، ويعتبرهم كائناتٍ غريبةً وعصاباتٍ ملثّمة أتت من الخارج لتفسد النّسيج الاجتماعيّ، وتهزّ نسق خضوع النّاس للدّولة الفردانيّة، ولا عجب أن ينعت العقيد معمّر القذافي الشّباب الثائر عليه "بشذّاذ الآفاق، والجرذان، والكلاب المسعورة، وعصابات المفسدين، وضحايا حبوب الهلوسة". فقد اعتاد، أربعة عقود ونيّف، التصرّف في البلد وأهله، كما يتصرّف في مزرعته، فهو يعدّ المحكومين، على اختلافهم، جماعات تابعة، وقبائل خاضعة، لا يتجاوز دورها إعلان الطّاعة وتكرار الولاء الآليّ للحاكم، وحراسة مجد الجماهيريّة المزعومة. ونهج المشير عبد الفتاح السيسي نهجا آخر، فطلب من الناس تفويضه ليحكم البلاد بلا منافس، ولأجل غير مسمّى. وانصرف يوزّع معارضيه بين السجون والمشافي والمنافي. وليستأثر بالسلطة، رقص علي عبد الله صالح "على رؤوس الثعابين" (والعبارة له)، وأذْكى الحرب الطائفية، وتحالف بانتهازية مع قوى متنافرة داخل اليمن وخارجه، ليُخمد ثورة شعبه، وليبقى في الحكم حتّى مصرعه برصاص حلفاء سابقين له.
ويوهم الدكتاتور العربي الناس بأنّه المسيح المخلّص، وصمّام الأمان والواقي من الضّياع، وأنّه
الحق ومن بعده الطوفان، محاولا إقناع العامّة بأن بُعده عن الدولة مهلكة وخروجه من الحكم مفسدة. وتعمد الآلة الدكتاتورية القامعة إلى تبكيت الفكر المخالف، ومصادرة التعدّدية، وتوظيف الوسائل الإعلاميّة لخدمة الحاكم. فتتمّ مركزة السلطة بيد المستبدّ وأعوانه، ويجري استخدام قنوات تشكيل الوعي الجمعي، لتلميع سياساته وشيطنة خصومه. وهو ما يُسهم في ترسيخ الأحادية، وحجب الرأي الآخر، فيُصبح المستبدّ وصيّا على النّاس، رقيبا على أفكارهم وأقوالهم وأفعالهم ولا رقيب عليه. والخارجون على الدكتاتور العربي مخيّرون بين التصفية والنفي والسجن والغرق في نهرٍ من أنهار العرب، وفيافيهم الواسعة.
وتفسَّر سطوة المستبدّ بقلّة وعي الناس بحقوقهم وواجباتهم، وبتضخم جهاز الدولة البوليسية القامعة وانتشار ثقافة الخوف. فالحاكم بأمره تَسْندُه الدواوين والشرطة والعسكر والجواسيس والمخابرات. والمؤسسات المدنية فضاءاتٌ لتكريس أفكاره وترويج منجزاته. فيصاب على التدريج بداء جنون العظمة، ويُخيل إليه أنه مالك زمانه، وأنه صاحب فضلٍ على الناس، فيزيد في نهج الاستبداد ويجدّ في استتباع النّاس بالقوة، وينافس الله في عرشه، فيتم الوصل بين الله والحاكم على نحو يصبح معه تقديس السّلطان من تقديس الله، فيغدو أتباعه ضرورةً، ونقد حكمه جريرة كُبرى. ويؤدّي ذلك إلى إنتاج دولةٍ شمولية، بعيدة عن دوائر التحديث السياسي، لا محالة.
ويوهم الدكتاتور العربي الناس بأنّه المسيح المخلّص، وصمّام الأمان والواقي من الضّياع، وأنّه
وتفسَّر سطوة المستبدّ بقلّة وعي الناس بحقوقهم وواجباتهم، وبتضخم جهاز الدولة البوليسية القامعة وانتشار ثقافة الخوف. فالحاكم بأمره تَسْندُه الدواوين والشرطة والعسكر والجواسيس والمخابرات. والمؤسسات المدنية فضاءاتٌ لتكريس أفكاره وترويج منجزاته. فيصاب على التدريج بداء جنون العظمة، ويُخيل إليه أنه مالك زمانه، وأنه صاحب فضلٍ على الناس، فيزيد في نهج الاستبداد ويجدّ في استتباع النّاس بالقوة، وينافس الله في عرشه، فيتم الوصل بين الله والحاكم على نحو يصبح معه تقديس السّلطان من تقديس الله، فيغدو أتباعه ضرورةً، ونقد حكمه جريرة كُبرى. ويؤدّي ذلك إلى إنتاج دولةٍ شمولية، بعيدة عن دوائر التحديث السياسي، لا محالة.