عن السياسة... علماً وفناً وتخصصاً

13 يونيو 2014

نيقولا ميكافيللي (1469 - 1527)

+ الخط -

بات مألوفاً في زماننا أن السياسة كمفهوم لا يتعدى أن يكون فناً من فنون الحيلة والدهاء، أو ثمة من يطلق عليه حرفة المراوغة والمناورة وخلط الأوراق وإخفاء الحقيقة. على الرغم من ذلك، عند التوغل والتمعن في جوهر المفهوم ومدلولاته، نرى أنه جرى تشويهه وتضليله، لا بل لا نبالغ في القول إن ما انتهت إليه السياسة، كأول علم يستخدمه الإنسان منذ الخليقة، تم إلغاء بنيته وتكنيكه، نظرياته وتطبيقاته، وهذه هي التي أسهمت في تكوين المجتمعات المدنيّة على مدى عقود.
السياسة كعلم مرّ كغيره من العلوم بمراحل عدة، في تطبيقاته ومفاهيمه النظرية، حتى استقر الأمر، في ستينيات القرن الماضي، على اعتباره "فن حكم المجتمعات الإنسانية". وفي العهود التي تأسس فيها علم السياسة وعناصره الأساسية، كان يُنظر فيها إلى السياسي بأنه عنصر متصل، غير منفصل عن فن الأخلاق وفلسفته. لذا؛ لا يمكن للقيادة أن تكون إلا لمن تتوفر في شخصه النزاهة والعدل والصدق والمشورة والوفاء وبسط النفوذ وعدم تغليب المصالح الشخصية النفعية على المجتمع. وهذا عكس ما جاء به ميكافيللي، في قوله عن علم الساسة إنه يجب أن يدار بضراوة الأسد ومكر الثعلب! وقد بدّل العدل والرحمة بالقسوة والوحشية والمراوغة المتثعلبة.


مقارنة بسيطة بين ما كان عليه علم السياسة، قبل ميكافيلي وبعده، تبين لنا أن السياسة، علماً وفناً، لامست حياتنا الاجتماعية بشكل مباشر، وبصورة غيرت معالمها إيجاباً أو سلباً. هذا العلم كان مرتبطاً عند الأقدمين الفلاسفة والعلماء بتطور العلوم الأخرى، حتى أن أفلاطون ميّزه عن باقي العلوم، وقال إن صَلُح علم السياسة صلحت الأمة، وتطورت العلوم الأخرى، والعكس صحيح. بينما نرى اليوم علم السياسة بجوانبه المتعددة، وقد شوهها السياسيون والقادة وصناع الرأي، لسوء استخدامهم المعطيات الأساسية لبقاء المجتمع صالحاً.
كما أبدى أفلاطون في كتابه "الجمهورية" رغبته الشديدة بضرورة تكوين مؤسساتٍ عليا تقوم بتدريس علم السياسة، مع العلوم الأخرى، غرضها تدريب رجال الدولة والقياديين والمستشارين، معتبراً إياه شرطاً أساسياً ولازماً إذا ما أريد في أي مرحلة إصلاح النظام والحفاظ عليه. كما أعطى أرسطو أهمية كبيرة لدراسة هذا العلم، وكيفية التعامل مع عناصره، مما يجعله علماً لإصلاح المجتمع، وتطويره وتثقيفه، وبما ينسجم مع القيم الإنسانية الفذة. فوجود هذا العلم كان متزامناً مع إدراك الفرد ضرورة تطوير الإحساس الوجودي، بإيجاد حياة اجتماعية لممارسة القيادة، والمشاركة بصنع القرار والحكم وهيكلة الدولة، وإيجاد علاقات واضحة بين الحاكم والمحكم! فهل استمر علم السياسة تطوراً بهذا النسق؟ طبعاً لا، على الأقل على المستوى العربي.
لننظر، مثلاً، لخريجي أقسام العلوم السياسية في الجامعات العربية، فوضع هؤلاء مثير للشفقة، بعد أن أصبحنا أمام وضع يختار فيه الطالب دراسة "علم السياسة"، إذا ما أغلقت أمامه التخصصات الأخرى، أو إذا لم يحصل على معدل يؤهله لدراسة تخصص آخر يرغبه. أو إذا كان متفوقاً، ولديه طموح، وما أن ينهي دراسته حتى يصدم بالواقع المرير. وأذكر أنني، ومعظم زملائي الذين درسوا "العلوم السياسية"، في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، كان يساورنا قلق من أن الفرص الوظيفية بعد التخرج تكاد تكون معدومة. وصدق ذلك، فكان الواقع مختلفاً عن الطموح!
لا شك أن تخصص العلوم السياسية، كعلم وظاهرة وبأفرعها المختلفة والمتعددة، نالت نصيباً لا بأس به من الإفساد، وثمة من ألصق بها تهماً على أنها تخصصاتٌ، لا تسمن ولا تغني من جوع، لتتحول مناهجها إلى مقررات مكررة، لا علاقة لها بالواقع، بعضها يراوح في فترة الحرب العالمية الأولى والثانية، تفتقر البعد التحليلي والمنهجي والبحثي والتطبيقي النقدي، ما قتل الإبداع، وقمع عقول الطلبة، وأرهب فكرهم وطموحهم!
وهكذا، وبدل أن يكون تخصص علم السياسة ضرورةً تربويةً لبناء الشخصية الفردية، وضرورة اجتماعيةً وحضاريةً، لتطوير الفكر البشري؛ تبدو وكأنها مادة "جاهزة"، وصالحة لكل زمان ومكان، يأخذها الطالب كما هي مادة غير قابلة للتشريح، يحفظها الطالب، وفي أبعد تقدير "عمل" بحث، أو ربما شرائه من إحدى المكتبات المنتشرة في الجامعات، أو استعارته من زميل سابق، أو بطبعه من الإنترنت مادة جاهزة!
لا يقتصر قيام الحضارات على العلوم الطبيعية، فلم تنهض أمة، وتقم حضارة من دون نظام سياسىي واقتصادي حديث، أي من دون مفكرين وفلاسفة يضعون الأفكار والتصورات الكلية، وهم دراسو السياسة وممارسوها من قادة ونخب تفهم في السياسة، وعلى دراية بباقي التخصصات الاجتماعية.
بات لازماً، لا بل ضرورة ملحة، وبأثر رجعي، الاهتمام بحقل العلوم السياسية، بما يشكل الباب الرئيس لإعادة الاعتبار للجانب المهمل في هذا العلم الذي كان سوء تطبيقه مدعاة لفشل السياسات التنموية العربية. وخصوصاً عمليات التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي إلى اليوم، ما انعكس على الصورة الواقعية والحقيقية لخريجي أقسام العلوم السياسية في الجامعات العربية، وجُلّهم لا يتقن سوى الشعارات والثرثرة السياسية، ما جعل دولنا العربية تفتقد الكوادر التحليلية السياسية الناضجة والمهيأة لقيادة المرحلة.
وعودٌ على بدء، يتوجب على الجامعات والمعاهد العربية التي تدرس تخصص علم السياسة، بدرجاتها المختلفة، أن تعيد الاعتبار إلى "المهنية الأخلاقية" لهذا العلم، وكذلك التقاليد البالية والمعوجة لتدريس هذا التخصص، بإيجاد مراكز بحثية، تعنى بالعلوم السياسية والاستراتيجية، تقطع مع الحال المتردي لبحوث السياسة، وتدريسها في وطننا العربي، وتعد مناهج وكتباً تهيئ الأرضية للتفاعل بين أطراف العملية التعليمية، مع اجتراح مواد "حديثة"، تحاكي الواقع ومتطلباته. وبهذه الخطوة، ربما، نستطيع أن نعيد الحيويّة إلى تخصص العلوم السياسية، بما يحفظ هيبته الأرسطويّة الأفلاطونيّة، وأن نصالحه مع محبيه، من دون أن نحوّله إلى سلعة تحددها ميكانيزما العرض والطلب، فهل نحن فاعلون؟


 

3467CF47-90FA-451A-87BD-72D9E261E143
خالد وليد محمود

كاتب وباحث، نشرت دراسات ومقالات عديدة. وله الكتب "شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكية التّغيير في العالم العربيّ" و"آفاق الأمن الإسرائيلي: الواقع والمستقبل" و"مراكز البحوث في الوطن العربي" و"قلاع اللغة العربية ورياح الثورة الاعلامية". ماجستير في العلاقات الدولية من الجامعة الأردنيّة.