عن الفرق بين دراسة السياسة وممارستها
ومن هنا سأجيب عن تساؤلين بسيطين.. كيف يختلف هذا التحليل عن التحاليل التي تصرح بها الجهات الرسمية في الدولة، أو الجهات الأخرى كالإعلام أو تلك التي تتداول في المقاهي؟ ثم كيف يمكن أن تنفصم دراسة السياسة عن ممارستها؟
إن السياسة بالمفهوم العامي عبارة عن تصارع فقط؛ بينما في الجامعة هذا لا يعد سوى حقل معرفي واحد، ألا وهو "علم السياسة"؛ إذ إنه أكاديمياً هنالك ما يسمى بالعلوم السياسية والتي تتفرع إلى حقول معرفية متعددة، كالقانون الدستوري الذي يعتبر موضوعه الممارسة السياسية المؤسساتية، في جهة مقابلة هناك علم الاجتماع السياسي والذي يدرس السلطة بانبثاق عن المجتمع وعلاقتهما ببعضهما البعض، أي down-up وليس up-down، كما هنالك التواصل السياسي، وعلم النفس السياسي، السياسات العمومية.. ناهيك عن السياسة الخارجية التي تناقش المجال الدولي كساحة للتعاون والصراع.
إن مجال السياسة غير محصور في ما يشاع للعامة على أنه سياسي بالضرورة، كالأحزاب السياسية والبرلمان والحكومة ورئاسة الدولة والمنظمات الدولية، على عكس ذلك، فإن السياسة ترتبط بكل المواضيع، ولهذا مباح لنا في عالمنا أن نتدخل في كل شيء؛ سواء إذا ما تعلق الأمر بالسينما والمسرح، تعويم العملات، الثقافات الاجتماعية، الكولونيالية، الأديان، التحرش الجنسي، الاحتباس الحراري، إلى غير ذلك..
كما أن المعاملات التي يحيكها الباعة المتجولون لبعضهم البعض ومفاوضاتهم مع رجال الأمن هي سياسة، والإعلام الرسمي في الدولة هو مجال خصب للسياسة "خاصة لما يسمى بالبروباغندا - الدعاية السياسية"، مدن الصفيح والعشوائيات، وضعية ذوي الاحتياجات الخاصة، السجون والمصحات العقلية.
فكل المواضيع هي مجال للسياسة إن لم تؤثر في الدولة بشكل مباشر فهي تؤثر في الأفراد الذين سيؤثرون في المجتمع أو في الاقتصاد أو في السيكولوجيا الجماعية أو في البيئة، أو ستخلق أحداثاً تاريخية والتي سوف تؤثر مباشرة في الدولة.
نستنتج إذاً أن السياسة هي كل ما يهم الجماعة، أو بالأحرى كل ما يتعدى حدود الأفراد ليصبح حاجة، بالتالي فإن كثيرا من المواضيع التي تبدو مدنية وكثيرا من القضايا التي تعتبر شؤونا خاصة هي في الواقع تمس السياسة بشكل أو بآخر. أمثلة ذلك: الرياضة، خاصة مباريات كرة القدم، التي يعد تحديد مواقيتها شيئاً ضرورياً لسير المرافق العمومية بالدولة، والتي يساهم تنظيمها في إبقاء مسار خاص للعلاقات الدولية، ويفترض أهمية تدبير التجمعات "للألتراس"، والتحكم في أوقات فراغ المواطنين لإبقائهم على وضعية الدجاج.
كما تتدخل الدولة في الحياة الفردية للمواطنين، كسياسات تحديد النسل أو الشعائر الدينية مثلاً أو تنظيم القطاعات وتقنين كل صغيرة وكبيرة وممارسة القمع بمسمى الأمن الوطني؛ فالنمو السكاني والتركيب العمري والنوعي والحالة التعليمية والروابط الأسرية، تؤثر على قوة وضعف سيادة الدولة، ما يجعل السياسة تتعدى حدود الأفراد ولا مجال مفتوح لهم إن اقترن الأمر بأسس التنظيم والهيمنة - هذا ما نستنتجه من إحساس الوطنية مثلاً الذي هو فردي جماعي تسخره الدولة سياسياً لخدمة أهدافها في حق البقاء وإنتاج أجيال من العبيد المخلصين-.
وأشهر مثال على اعتبار أن القضايا المدنية قد تتحول لقضايا سياسية، هي القضية المتعلقة بأمينة الفيلالي في المغرب، وهي طفلة (16 سنة) تم تزويجها بمغتصبها في إطار تسوية الوضعية ما بين العائلتين، حيث كانت العقوبة تسقط في حالة الزواج، فقامت بالانتحار سنة 2012.
اعتبر الشارع العام المغربي هذا اغتصاباً للطفولة بمسمى القانون، وهزت هذه القضية التي هي "قضية شخص واحد" الرأي العام، ليقر بعدها تعديل على قانون الاغتصاب المغربي. الأمر نفسه يتعلق بشعلة الثورات العربية سنة 2011 التي بدأت بقضية إحراق بوعزيزي لنفسه بتونس، أو حراك الريف بالمغرب إثر مقتل محسن فكري.
تبقى المسائل المدنية الفردية رهينة بأن تصل إلى ما نصفه بـ"حاجيات وقضايا الجماعة"، بحيث إذا ما استطاعت قضية معينة أن تؤثر في الرأي العام وأن تدخل إلى بؤرة الأجندات العمومية للسلطات العليا في الدولة، فيتم الانتقال مما هو مدني إلى ما هو سياسي، وهذا هو المعيار الذي نحدد به إذا كان الموضوع سياسياً أم لا، وهذا أمر لا يستوعبه كثير من غير الدارسين للسياسة.
إن التحليل السياسي الأكاديمي يختلف عن التحليل العام أو ذلك الذي يتداول في مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة، حيث ينصب كل فرد نفسه خبيراً سياسياً، لا سيما حينما يتعلق الأمر بنظرية المؤامرة والديمقراطية والفساد.
هذا لا يعني أن تلك التحاليل هي خاطئة، وإنما هي مختلفة وحسب. ومرد هذا الاختلاف معطيان، الأول يتعلق بالمصداقية العلمية، حيث يُتعاطى مع السياسة لدى الخبراء كعلم لا يمكن تفسير ظواهره دون اللجوء إلى الدراسات السابقة حول الموضوع؛ إذ إنها تمتثل على التراكمية المعرفية الأفقية وليس العمودية التي تقوم عليها العلوم الحقة "كالفيزياء والرياضيات"؛ حيث يتم استبدال نظرية بأخرى.
وقد يتساءل الكثيرون حول كيفية اعتبار العلوم الاجتماعية والسياسية كعلوم، والإجابة تكمن في دراسة الميثودولوجيا "علم المناهج"، و الإبستيمولوجيا "علم المعرفة"، وهي ما يدرسه طلبة القانون والسياسة منذ السنة الأولى بالجامعة "على الأقل في المغرب"؛ فمصطلح العلم يحيل إلى كل موضوع له جماعة علمية مختصة به، بحيث تكون ظواهر الموضوع المدروس خاضعة للتجربة بآليات محددة، لكن التجربة في المجالات الإنسانية لا تخضع للمختبرات، كما أننا لا نحصل على النتيجة نفسها حتماً في كل مرة بسبب موضوع الدراسة المعقد الذي تختلط فيه العوامل الاقتصادية بالسيكولوجية بالجغرافية بالتاريخية، كما أننا لا ننتج قوانين مطلقة؛ وهذا ما يميز العلوم السياسية أنها تخضع للاستمرارية و النسبية. لكن هذا لا يمنع أن هناك قواعد محددة تحكم إشتغالها؛ إذ إن التحليل الأكاديمي يختلف عن التحليلات الأخرى، في أنه لا يمكن البتة الحديث من فراغ دون إثبات التحليل.
وهذا يحيلنا إلى الاختلاف الثاني المتعلق بأدوات هذا التحليل وهي (نظريات - مدارس فكرية - مناهج - مقتربات - مؤشرات..)؛ فتختلف النظريات على سبيل المثال باختلاف الحقل، ويختلف التحليل نفسه باختلاف النظرية.
فما يمكن أن نورده لتحليل الوضع في سورية سيختلف إذا ما حللناه بمفهوم النظرية الواقعية في العلاقات الدولية أو النظرية الليبرالية أو المثالية أو السلوكية، الأمر نفسه لفوز ترامب في الانتخابات الأميركية، أو حصار الخليج؛ فالتحليل يكون عبر استحضار معطيات معينة سواء اعتمدت على القوانين أو الأحداث التاريخية أو السياقات والفاعلين.
التحليل الأكاديمي ينصب على ثلاثة أهداف فقط (الفهم - التفسير والتحليل - التنبؤ)، وهو دوماً يخضع الظاهرة السياسية إلى المساءلة والتجربة، فنحن لا نؤمن بالإطلاقية، وإنما بالنسبية وتعددية التحاليل، وستبقى كل التحليلات منطقية تتأرجح بين الصواب والخطأ لأن الفرق يكمن في أخذها من زوايا مختلفة ومقتربات عدة فقط. الهدف النهائي يكمن في تقريب الصورة وإعطاء استنتاجات عن أسباب وضعية معينة أو تأثيرها من أصحاب الاختصاص؛ فنحن لا نعطي مجرد آراء، ولا نهدف للضغط على السلطات، ولا إلى الانتقاد أو إثبات الانتماء أو ما شابه كتلك الصادرة عن الجهات الرسمية والصحافية والمواطنين.
إن الاختلاف ما بين المجال الأكاديمي ومجال ممارسة السياسة مرده البرغماتية (الموضوعية)، حيث ينسلخ الأكاديمي عن ذاتيته "ميوله الشخصية - انتماءاته الوطنية والسياسية - ظروفه الاجتماعية.."، ليرتدي زي المحايد الذي يراقب الظاهرة ببطء ويجمع معطيات متباينة الاختلاف ليعطي مجموعة تفسيرات منطقية.
الممارسة السياسية رهينة بالواقعية، بالمفاوضات، بالدعاية، بالتأثير السيكولوجي سواء بالتواصل ومحاولة الإقناع أو بالخطابات العاطفية، بالقمع، بالمخابرات، بالعسكرة. بالتالي فإن الاختلاف ما بين السياسي والأكاديمي هو اختلاف الأهداف والوسائل؛ للسياسي هدف واحد لا غير، هو الوصول إلى السلطة ومسك زمامها، وحينما يصبح هذا هو الهدف، تصبح الإطلاقية وقاعدة اللاقاعدة هي التي تحتكم، ولتحقيق هذه الغاية يتم الامتثال إلى انتماء سياسي موحد، والدفاع عن رأي واحد وحسب.
إن عملية صناعة القرار تختلف عن عملية تفكيكها؛ إذ إنها في الجانب الأول تعد مهنة تتشابه مع أي عمل روتيني لن ينجز لكن سيدر أموالاً طائلة. لكن نحن الأكاديميين "بسطاء" لا نهدف إلا إلى ملء خزانة المكتبات الجامعية بأبحاث علمية تهدف إلى تحليل كيفية ممارسة هذه السلط ودراسة الساحة الوطنية والدولية وتأثيراتها ببعضها البعض وتوازناتها وثغراتها، لجعل الظواهر السياسية محل نقاش علمي موثوق.
وختاماً يمكن إسقاط الأسس الأكاديمية على التخصصات الأخرى؛ إذ إن الجامعة تظل إطاراً نظرياً لا يؤهل للواقع التطبيقي، وهذه ليست معضلة بقدر ما هي حافز للبحث العلمي البرغماتي.