عن الفساد العربي بمناسبة "المؤشر العربي"
ارتباطاً بحدث الربيع العربي، سيعود بقوة الحديث عن الفساد، عندما رفعت الساحات العُمومية شعاراً صادحاً، يكثف كل عناوين الحراك الشعبي: إسقاط الفساد والاستبداد.
والواقع أن الربط بين الاستبداد والفساد في الحالة العربية أمرٌ يتجاوز، بالتأكيد، سُهولة البلاغة السياسية التي رافقت انفجارات 2011، فالربط قائمٌ في عُمق الواقع، وفي قلب البنيات السياسية التي أنتجت ظروف الثورات الشعبية، حيث شكل الفساد نمطاً للحُكم، وجوهراً لتدبير الدولة الريعية والقمعية، وآلية لبناء شبكات الزبونية التي تُعضد علائق النظام السلطوي بحلفائه الطبقيين والاجتماعيين.
داخل منظومة الفساد هذه، يعَدُّ الفساد السياسي أصلاً لباقي الأنواع والفروع؛ من فساد اقتصادي وفساد اجتماعي وغيرهما، حيث يبقى الفساد السياسي بمثابة الإطارِ العام الذي تنتظم داخله باقي الأشكال، في سعيٍ موصولٍ إلى تغدية استمرارية النظام السلطوي وإعادة إنتاج آلياته الهيمنية والإدماجية /الإقصائية.
علاقة بالموضوع، ومن خلال نتائج المؤشّرُ العربيُّ لعام 2014، وهو استطلاعٌ سنويّ ينفّذه المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، في البلدان العربيّة؛ بهدف الوقوف على اتّجاهات الرّأي العامّ نحو مجموعةٍ من الموضوعات: الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة، يتضح أن مؤشر انتشار الفساد يراكم أعلى المستويات ،إذ عبّر 83 % من المُستجوبين عن أن الفساد منتشر جداً، أو منتشر إلى حد ما، داخل بلدانهم، غير أن اللافت، في هذا الصدد، أن هذا المؤشر لم يُسجل أي تباين ملحوظ، قياساً على ما كان عليه عام 2012/2013، أو عام 2011.
في السياق نفسه، أصدر حديثاً الائتلاف الفلسطيني من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)، بشراكةٍ مع تنظيماتٍ تُعنى بالشفافية في المغرب وتونس ولبنان ومصر تقريراً حول "الفساد السياسي في العالم العربي"، يتأسس على مقاربة منهجية اعتمدت شبكة من المؤشرات التي حاولت رصد أبرز مظاهر الفساد داخل الدول المعنية، على مستويات: فصل السلطات، نزاهة الانتخابات، إدارة المُمتلكات والأموال العامة، هيئات الرقابة، الأحزاب السياسية، الإعلام، المؤسسات الأمنية، المُجتمع المدني.
بعد تركيب مُجْمل ما ورد في الأوراق الخلفية للتقرير، والتي تناولت حالة كل دولة على حدة، يخلص إلى تقديم توصيات، تتضمن اعتماد بناء دستوري، ينطلق من قاعدة الفصل بين السلطات، تفادياً لتَغَوّل السلطة التنفيذية، ما يحولها إلى سلطة شفافة وخاضعة للمُساءلة، ضمان الإفصاح عن الممتلكات وإقرارات الذمة المالية لكبار المسؤولين، إقرار تشريعات خاصة بتجنب تضارب المصالح، وسن قوانين تتيح الحق في الحصول على المعلومات، انتخاب البرلمان ومنحه صلاحيات تشريعية ورقابية، ضمان استقلال السلطة القضائية، ومنحها الموارد الضرورية لتأكيد فعاليتها، ضمان الرقابة العامة على إدارة الأموال والممتلكات العمومية، إقرار مبدأ المسؤولية السياسية على الأجهزة الأمنية، ضمان حرية تأسيس الأحزاب وحق المواطن في تأسيس المنظمات الأهلية، مع إقرار قانون يضمن حرية الإعلام واستقلاله.
كانت ظلال متغيرات المحيط الإقليمي حاضرةً بقوة في التقرير، وهنا، إذا كان من خلاصة أساسية، فان حدث الثورة في حد ذاته، كلحظة لإسقاط نظام الاستبداد لا يُمْكِنُ النظر إليه بسهولة، كإنهاءٍ مَشْهديٍ حاسم لحالة الفساد البنيوي، بقدر ما يتوجب التعامل معه منطلقاً لمسلسل من التفكيك المُسْتمر للمنظومة المُعقدة للفساد، انطلاقاً من إصلاحات عميقة ومتعددة الواجهات.
عموماً، لا تبتعد خلاصات التقرير كثيراً عن نتائج كلِ الدراسات ذات العلاقة بالموضوع، والتي تَطرح الإصلاح السياسي ركناً رئيسيٍاً في بناء المنظومة الوطنية للنزاهة، ذلك أن منبت ظاهرة الفساد يتمثل في قيام النظام السياسي على فكرة اللامسؤولية المنظمة، حيث لا ترتبط ممارسة السلطة بالمحاسبة، وحيث تظل ممارسات السلطة التنفيذية بعيدةً عن رقابة المنتخبين، والمواطنين، ومؤسسات الرقابة، ووسائل الإعلام. فضلاً عن تنامي حالات التداخل والالتباس بين السلطة والثروة، واعتماد قاعدة القرب من مراكز القرار، كآلية لتحقيق التراكم الاقتصادي.
تبقى الإشارة إلى أن أخطر ما تُواجِههُ المعركة ضد الفساد استسلامُ النّخَبِ. يحدث ذلك أساساً، عندما تستبطن الأخيرة خطاباً تبريرياً، ينطلق من ادعاء أن الفساد حالةٌ ثقافية عامةٌ، داخل المُجتمعات العربية، وأن ثمة طلباً مُجتمعياً واسعاً على الفساد، ويُطَورُ تحليلاً يكادُ يتمثل الفساد فيه قدراً لا ردّ لقضائه، لينتهي، في الأخير، إلى تطبيعِ كاملٍ مع الفساد.
تنطلق محاربة الفساد من الإيمان بفكرة أن مجتمعات عربية قائمة على مبدئي النزاهة والشفافية أمرٌ مُمكن.