عن اليسار في الثورة السورية

19 سبتمبر 2017
+ الخط -
غالباً ما يتجاهل أي حديث عن الثورة السورية تناول دور اليسار المشارك فيها، على الرغم من انخراط أعداد كبيرة من الشباب اليساري والشيوعي في الحراك الثوري منذ اليوم الأول، جزء منهم من اليسار غير المنظم ضمن أي من أحزاب اليسار التقليدية، الرسمية وغير الرسمية، نتيجة عدم قبولهم ببرامج هذه الأحزاب والمجموعات أو تحليلاتها أو مواقفها. وجزء آخر أتى من صميم الأحزاب التقليدية، على خلفية مواقفها وتصريحاتها المسيئة للثورة، والمعبرة بشكل أو بآخر عن جوهر خطاب السلطة. هذه الأحزاب التي احتواها النظام في الجبهة الوطنية التقدمية لتضحي مشاركة نظرياً في الحكم، فقد ضمنت الجبهة الوطنية التقدمية حصة لجميع الأحزاب المشكلة لها في مؤسسات السلطة الهامشية، مثل مجلس النواب والنقابات المهنية والاتحادات الاجتماعية، وأحياناً تمنحهم السلطة مناصب إدارية ثانوية، وبالطريقة التي تضمن عجز هذه الأحزاب عن أداء أي دور حقيقي في صياغة سياسة النظام الداخلية والخارجية والاقتصادية، كيف لا وهي من قبلت بحل جميع بناها الحزبية القاعدية، ثمناً للمشاركة في الجبهة التقدمية، وبالتالي في الحكم شكلياً.

لذا، وبغض النظر عن أي تحليل أو نقد لمواقف (وممارسات) الأحزاب اليسارية والشيوعية الرسمية، ذات التأثير الهامشي على المجتمع والدولة، لا بد من البحث عن أسباب غياب التأثير اليساري المناهض للنظام على مسار الثورة السورية وعن تمثيلها، على الرغم من فاعلية يساريين إغاثياً وإعلامياً وسياسياً وأحياناً عسكرياً، ونشاطهم ودورهم. مع ملاحظة تأثير بعض الجهات والأطراف الأخرى، على الرغم من محدودية مساهماتهم الثورية نسبياً، وهو لا يعني أن لليساريين الدور الأكبر في مسار الثورة، لكن من اللافت غيابهم طرفاً واضحاً عن أي تمثيل للثورة إعلامياً أو سياسياً.
وقد ساهم انهيار المرجع السياسي اليساري العالمي (أي انهيار الاتحاد السوفييتي) في تعزيز الميل المدني والأهلي لدى شرائح واسعة من اليساريين والشيوعيين، كما ساهم نموذج الحكم الاستبدادي الأسدي في قطيعةٍ شعبيةٍ مع مفهوم الحزب، نظراً للدور الإعلامي والمعنوي لحزب البعث في تثبيت ركائز الحكم الشمولي. ليسارع بعض اليساريين إلى اعتبار أنفسهم في مرحلة العمل المدني والأهلي فقط ولا حاجة لأي شكل من العمل الحزبي، ما أفقد هذا اليسار أي قدرة على ربط العمل المدني بالرؤية السياسية، أو ببرنامج عملٍ ناظم لهم ومعبّر عنهم، هذا البرنامج الذي كان على اليساريين العمل عليه، من أجل تحديد رؤيتهم للثورة ولمستقبل سورية، وكي يتمكّن المجتمع السوري من تحديد مكامن الخلاف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين اليسار واليمين، فضلاً عن دور البرنامج السياسي في بلورة النشاط اليساري الإغاثي والإعلامي والاجتماعي ضمن نسيج واحد، يعبر عن خط واضح يمكن التعويل عليه مستقبلاً، مع ملاحظة الاختلاف الجوهري عن استراتيجية عمل قوى اليمين المحلية، وأبرزها جماعة الإخوان المسلمين الذين عملوا على أن تصب جميع النشاطات والفعاليات المدنية والاجتماعية لصالح برنامجهم وتمثيلهم السياسي، وبغض النظر عن مدى تمثيل هذا البرنامج، وهذه الجماعة، المجتمع السوري وطموحاته.
وبالتوازي مع الميل اليساري العام نحو العمل المدني، يمكن، من جهة أخرى، ملاحظة ميل جزء من القطاعات اليسارية المنخرطة في الثورة نحو أهمية البناء الحزبي والتنظيمي في خضم الثورة السورية، الناتج عن غياب التمثيل اليساري أو الشيوعي المنظم، في مرحلة ما قبل الثورة، وحصره في تلك المرحلة بالأحزاب والتجمعات الرسمية المنخرطة في الجبهة التقدمية والفاقدة مصداقيتها الشعبية عموماً. لتواجه المجموعات أو التجمعات اليسارية المدركة أهمية البناء الحزبي والتنظيمي، وأهمية البرنامج السياسي، مهام مركبة ومعقدة، يمكن تفنيدها إلى مهمتين رئيسيتين. تعبر الأولى عن بناء الحزب والبرنامج، وتتمثل الثانية بالدور الاجتماعي والثوري الميداني، ولكن تلك التجمعات عجزت عن الموازنة بين المهمتين، فاتجه بعضهم إلى إنجاز البناء الحزبي على حساب العمل الثوري والانخراط بالمجتمع، وأضحوا مجموعات ثقافية وسياسية فاقدة جذورها الاجتماعية، ومتعالية عليها أحياناً كثيرة، وعاجزة عن التأثير المتبادل مع المجتمع والمستجدات السياسية والاجتماعية. بينما تناسى بعضٌ آخر أهمية البناء الحزبي لصالح العمل والنشاط الميداني، وبالتالي تحول، عن قصد أو من دونه، إلى مجموعات مدنية ناشطة وفاعلة اجتماعياً وفاقدة لبرنامجها السياسي، أو أي هيكل تنظيمي يعبر عنها وعن برنامجها، وهو ما ساهم في ضياع جل جهودها وإنجازاتها الفردية والجماعية في خضم الأحداث والويلات السورية.
وأخيراً، لابد من الإشارة إلى تأثير غياب الدعم المالي والإعلامي للتوجهات اليسارية عموماً، والذي دفع يساريين إلى مواربة رؤاهم السياسية، من أجل تحصيل أي دعم مالي ولو بسيط، يمكنهم من تقديم خدماتهم وجهودهم للمجتمع المحلي. كما تجاهلت أطر يسارية برامجها السياسية وهياكلها السياسية (النخبوية غالباً) لصالح التحالف مع قوى اليمين، تحت شعار تكوين تحالف وطني لإنجاز مرحلة التحرّر الوطني من استبداد حكم الأسد وإجرامه، وأضحى هذا التحالف صورة شبه مطابقة لانخراط أحزاب اليسار التقليدية ضمن الجبهة التقدمية، أي تحولت تلك الأطر إلى مجرد صورة كاريكاتورية لأحزاب يسارية تكرّس عملياً سيطرة قوى اليمين على تمثيل الثورة السورية.

في المحصلة، نجد أن اليساريين تاهوا بين عدة عقبات ذاتية وموضوعية، من قبيل تهميش أهمية العمل السياسي والاجتماعي المنظم والمتكامل، وصعوبة الموازنة بين البناء الحزبي والعمل الميداني والاجتماعي، والعجز عن إيجاد الحلول العملية لغياب الدعم المالي والإعلامي، لتكون النتيجة فقدان اليسار أي قدرة على المساهمة الواضحة في مسار الثورة، وخسارته فرصة خوض صراع سياسي بين برنامجه وبرنامج اليمين، وهو ما كان سوف يعطي مؤشراً حقيقياً عن قدرة اليسار على تمثيل آمال السوريين وطموحاتهم، ما ساهم في تكريس سيطرة اليمين على الثورة، وعلى تمثيلها، من دون أي مقاومة تذكر من أي طرف آخر، وهو ما أفقد الشعب السوري حقه في اختيار البرامج والقوى والأحزاب التي تمثله.
وما زال اليسار يعاني من المشكلات نفسها حتى اليوم، على الرغم من تصاعد حالة الاحتقان والرفض الشعبية لممارسات قوى اليمين، وفي مقدمة هذه القوى جماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من تعقد الوضع السوري الذي فرض عليه اليوم التصدي لواقع الاحتلالات المتعدّدة والمتنوعة، ابتداء بالأسد ومروراً بجميع القوى الدولية والإقليمية المحتلة لجزء من الأراضي السورية، ما يدفعنا إلى التساؤل عن قدرة اليسار على تجاوز العقبات والصعوبات التي تعيق بلورته تياراً أو اتجاهاً في مقبل الأيام.
75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.