09 يونيو 2023
عن اندماج المهجّرين السوريين
يجد المهجّر القسري السوري، ذكراً كان أم أنثى، في الهجرة إلى أوروبا، وألمانيا على الأغلب، الحل الوحيد المرغوب أمامه، بعد أن تقطعت به السبل، وخذله أشقاؤه، كما خذله المجتمع الدولي بأن يضع حداً للصراع في سورية، لكي يعود إلى بيته وعمله، فيضطر إلى ركوب البحر، معرّضاً نفسه للغرق، ويقطع مسافةً طويلةً تبلغ آلاف الكيلومترات، متحملاً صعوباتٍ جمّة في ظروفٍ صعبة، وقد يكون برفقة أطفاله، وذلك طلباً للأمن والأمان، وضمان مستقبل أولاده.
لبلدان أوروبا المستقبلة للهجرة مصلحة في استقبال المهجرين، لحاجتها إلى قوة عملٍ تسهم في دفع عجلة النمو، وقد صرّح رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو درّاجي، أنه ينبغي النظر إلى موجة الهجرة إلى أوروبا، باعتبارها فرصةً لأن الإنفاق على المهاجرين سيؤدي، على الأرجح، إلى تحفيز النمو الاقتصادي في منطقة اليورو. وقال "يمكن أن يتحوّل الإنفاق الحكومي الذي سيكون لازماً للتعامل مع هذا التحدّي، في الواقع، إلى أكبر مشروع للاستثمار الحكومي، نحصل عليه منذ سنوات طويلة". ولكن، ثمّة مخاوف من التأثير على هوية أوروبا وثقافتها، خصوصاً مع معدلات ولادة مرتفعة للمهجرين، مقارنةً بمعدلاتٍ متدنيةٍ جداً للمجتمعات الأوروبية، خصوصاً مع صعوبات اندماج المهجرين في المجتمع الأوروبي.
يواجه المهجرون السوريون امتحان التكيّف مع العيش في مجتمعٍ، يختلف عنهم لغوياً وثقافياً وقيمياً، ما يضعهم أمام امتحانٍ سهل ومرغوب بالنسبة لبعضهم وصعب لآخرين، بينما يرفض فريق صغير مسبقاً أي اندماجٍ، ويرفع راية العداء للمجتمع الذي اختار اللجوء إليه طلباً للمساعدة، وعلى الرغم مما في ذلك من تناقضٍ، فهذا هو الواقع.
يحمل المهجّرون السوريون في مخيلاتهم أكثر من صورة نمطية مسبقة عن بلدان أوروبا المستقبلة لهم، فالفئات القادمة من مجتمعات منفتحة، وهذه هي الشريحة الأكبر بين المهجرين، مثل المجموعات الإسلامية المدينية المنفتحة، والفئات المسماة أقلياتٍ، والفئات المتعلمة التي تحمل أفكاراً يسارية وليبرالية، جميعها تحمل صورةً زاهيةً عن بلدان أوروبا المستقبلة، فهي بلادٌ صناعية متقدمة، منظمة ومنفتحة، بلاد الديمقراطية والحرية وسيادة القانون. وهذه المجموعات تكون أقدر على الاندماج في المجتمع الجديد، وتتقبل مختلف عادات أوروبا وطرق عيشها وقيمها، إلى حدٍّ تتضاءل الفوارق تدريجياً، وتدخل هذه المجموعات في علاقات عمل وصداقاتٍ وزواج مختلط مع المجتمع الأوروبي.
ثمة مجموعات قادمة من فئاتٍ اجتماعية محافظة نسبياً، ضمن تقاليد المجتمع السوري الوسطي،
وهي تحمل صورة مزدوجة عن أوروبا. فهي، من جهةٍ، مجتمع متقدم منظم يسوده القانون واحترام الإنسان وقيمه وحقوقه، غير أنها، من جهةٍ أخرى، بلاد لها ديانة مختلفة وقيم مختلفة وثقافة مختلفة، وأن انفتاح مجتمعهم لا يتناسب مع ما اعتادوه من قيم وعادات، خصوصاً في ما يخص سلوك النساء والتحرّر الجنسي الذي يشكل لهم هاجساً يحكم حيزاً واسعاً من مواقفهم وسلوكهم وعلاقاتهم مع محيطهم. غالباً ما تعيش هذه الفئات ضمن مجموعاتٍ، تنغلق على بعضها في علاقاتها اليومية، وتتزاوج فيما بينها، أو تكون حريصةً على عدم الزواج المختلط، وتحرص على الالتزام بالطعام الحلال، والتمسك بممارسة الشعائر الدينية وغيرها، وتسعى إلى وضع أبنائها في مدارس لها طابع إسلامي. ولكن هذا كله من دون تعصب، ومن دون عداء مضمر للمجتمع الأوروبي المختلف. ومع مرور الوقت، يصبح الجزء الأكبر من هذه المجموعات أكثر تفهماً للمجتمع الأوروبي الجديد، وأكثر اندماجاً به، وتتخلى عن حذرها، وعن جدران الصد التي بنتها لحماية نفسها من تأثيرات المجتمع الجديد، مدفوعة بمصلحتها وبتأثير المجتمع المحيط نفسه، بينما يقع جزء صغير منها تحت تأثيرات المجموعة الثالثة الدعوية.
الفئات المتعلمة في الفئات السابقة أكثر قدرة على الاندماج، بحكم أنها أكثر قدرةً على تعلّم لغة البلد الأوروبي التي هي شرط للاندماج، والحصول على عمل، وبحكم أن تأهيلها العلمي يجعلها أكثر قدرةً على تفهم المجتمع الآخر، ويمكّنها من تحصيل فرص عمل أفضل بأجور أعلى، بينما يعاني من هم بدون تعليم أو تأهيل من صعوباتٍ أكبر في الاندماج.
ثمة مجموعة ثالثة صغيرة جداً قليلة العدد، تأتي من أوساطٍ دينيةٍ متزمتةٍ، أو من أوساط أو عائلات متأثرة بأحزاب ومجموعات الإسلام السياسي، ترفض الاندماج، وتحمل كمية كبيرة من الشحن العقائدي ضد "مجتمع الكفار". فهؤلاء على الرغم من أنهم اضطروا للهجرة، وأن مجتمعاً أجنبياً مد لهم يد العون، في الوقت الذي بقيت فيه أيدي "إخوتهم" مضمومة إلى صدورهم، فإنهم وعلى الرغم من ذلك، يتخذون موقفاً معادياً، بل يشعرون بأنهم مكلفون بالجهاد، وأن الجهاد فرض عين في كل زمان ومكان، وبكل السبل، لتحويل هذا المجتمع "الكافر" إلى جادّة الصواب، أو هدمه.
ينظم هؤلاء أنفسهم ضمن مجموعاتٍ سلفيةٍ مغلقة تنشط لاجتذاب أعدادٍ أكبر من الأوساط الإسلامية، ويتردّدون على مساجد يخطب فيها دعاة متزمتون، ويميّزون أنفسهم بإطلاق اللحى، بل وحتى ارتداء الثوب القصير، ويمارسون الدعوة والتعبئة وتحشيد الآخرين والتنظيم في مجموعاتٍ ذات فكر جهادي. ويفاخر هؤلاء بدعوة مواطنين أوروبيين للإسلام، بل وأحيانا للجهاد، وعلى الرغم من صغر حجمها وقلة أعداد افرادها، فإنها تلحق أكبر الضرر بمصالح جموع المهجرين.
تلعب السياسات العامة في البلدان المستقبلة للمهجرين السوريين، والتي تنظم وجودهم، دوراً رئيساً في اندماجهم في بلدان هجرتهم، فتأمين شروط استقبالٍ جيدةٍ، وسرعة إجراءات تأمين السكن، ودورة اللغة والتدريب إن لزم الأمر، ومن ثم المساعدة في إيجاد عمل، كل هذا يهيئ تجربةً شخصيةً مشجعةً على الاندماج. وفي المقابل، يلعب موقف المجتمع المحيط بالمهجر ومدى الترحيب به من عدمه أو التعامل الطبيعي معه أم التمييز ضده في محيطه في السكن، وفي حياته اليومية في الشارع، وفي وسائط النقل العامة والمقاهي والشارع، دوراً في تكوين تجربةٍ شخصيةٍ، موجبة أم سالبة، تجاه الاندماج.
ومثلما هي مصلحة البلد المستقبل أن يساعد المهجر على الاندماج في مجتمعه الجديد، فإن مصلحة المهجر هي في مساعدة نفسه على الاندماج أيضاً، وأن يكتسب من مجتمعه الجديد قيماً ومبادئ وأفكاراً عصرية، وأن يحترم ثقافة مجتمعه الجديد وقيمه. ويمكن أن يتم هذا من دون التخلي عن ما في ثقافته وقيمه وعاداته من قيم موجبة. ولكن، عليه بالتأكيد، التخلي عن كثير من قيمٍ وعاداتٍ، تتعارض مع الحياة العصرية الحديثة.
لبلدان أوروبا المستقبلة للهجرة مصلحة في استقبال المهجرين، لحاجتها إلى قوة عملٍ تسهم في دفع عجلة النمو، وقد صرّح رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو درّاجي، أنه ينبغي النظر إلى موجة الهجرة إلى أوروبا، باعتبارها فرصةً لأن الإنفاق على المهاجرين سيؤدي، على الأرجح، إلى تحفيز النمو الاقتصادي في منطقة اليورو. وقال "يمكن أن يتحوّل الإنفاق الحكومي الذي سيكون لازماً للتعامل مع هذا التحدّي، في الواقع، إلى أكبر مشروع للاستثمار الحكومي، نحصل عليه منذ سنوات طويلة". ولكن، ثمّة مخاوف من التأثير على هوية أوروبا وثقافتها، خصوصاً مع معدلات ولادة مرتفعة للمهجرين، مقارنةً بمعدلاتٍ متدنيةٍ جداً للمجتمعات الأوروبية، خصوصاً مع صعوبات اندماج المهجرين في المجتمع الأوروبي.
يواجه المهجرون السوريون امتحان التكيّف مع العيش في مجتمعٍ، يختلف عنهم لغوياً وثقافياً وقيمياً، ما يضعهم أمام امتحانٍ سهل ومرغوب بالنسبة لبعضهم وصعب لآخرين، بينما يرفض فريق صغير مسبقاً أي اندماجٍ، ويرفع راية العداء للمجتمع الذي اختار اللجوء إليه طلباً للمساعدة، وعلى الرغم مما في ذلك من تناقضٍ، فهذا هو الواقع.
يحمل المهجّرون السوريون في مخيلاتهم أكثر من صورة نمطية مسبقة عن بلدان أوروبا المستقبلة لهم، فالفئات القادمة من مجتمعات منفتحة، وهذه هي الشريحة الأكبر بين المهجرين، مثل المجموعات الإسلامية المدينية المنفتحة، والفئات المسماة أقلياتٍ، والفئات المتعلمة التي تحمل أفكاراً يسارية وليبرالية، جميعها تحمل صورةً زاهيةً عن بلدان أوروبا المستقبلة، فهي بلادٌ صناعية متقدمة، منظمة ومنفتحة، بلاد الديمقراطية والحرية وسيادة القانون. وهذه المجموعات تكون أقدر على الاندماج في المجتمع الجديد، وتتقبل مختلف عادات أوروبا وطرق عيشها وقيمها، إلى حدٍّ تتضاءل الفوارق تدريجياً، وتدخل هذه المجموعات في علاقات عمل وصداقاتٍ وزواج مختلط مع المجتمع الأوروبي.
ثمة مجموعات قادمة من فئاتٍ اجتماعية محافظة نسبياً، ضمن تقاليد المجتمع السوري الوسطي،
الفئات المتعلمة في الفئات السابقة أكثر قدرة على الاندماج، بحكم أنها أكثر قدرةً على تعلّم لغة البلد الأوروبي التي هي شرط للاندماج، والحصول على عمل، وبحكم أن تأهيلها العلمي يجعلها أكثر قدرةً على تفهم المجتمع الآخر، ويمكّنها من تحصيل فرص عمل أفضل بأجور أعلى، بينما يعاني من هم بدون تعليم أو تأهيل من صعوباتٍ أكبر في الاندماج.
ثمة مجموعة ثالثة صغيرة جداً قليلة العدد، تأتي من أوساطٍ دينيةٍ متزمتةٍ، أو من أوساط أو عائلات متأثرة بأحزاب ومجموعات الإسلام السياسي، ترفض الاندماج، وتحمل كمية كبيرة من الشحن العقائدي ضد "مجتمع الكفار". فهؤلاء على الرغم من أنهم اضطروا للهجرة، وأن مجتمعاً أجنبياً مد لهم يد العون، في الوقت الذي بقيت فيه أيدي "إخوتهم" مضمومة إلى صدورهم، فإنهم وعلى الرغم من ذلك، يتخذون موقفاً معادياً، بل يشعرون بأنهم مكلفون بالجهاد، وأن الجهاد فرض عين في كل زمان ومكان، وبكل السبل، لتحويل هذا المجتمع "الكافر" إلى جادّة الصواب، أو هدمه.
ينظم هؤلاء أنفسهم ضمن مجموعاتٍ سلفيةٍ مغلقة تنشط لاجتذاب أعدادٍ أكبر من الأوساط الإسلامية، ويتردّدون على مساجد يخطب فيها دعاة متزمتون، ويميّزون أنفسهم بإطلاق اللحى، بل وحتى ارتداء الثوب القصير، ويمارسون الدعوة والتعبئة وتحشيد الآخرين والتنظيم في مجموعاتٍ ذات فكر جهادي. ويفاخر هؤلاء بدعوة مواطنين أوروبيين للإسلام، بل وأحيانا للجهاد، وعلى الرغم من صغر حجمها وقلة أعداد افرادها، فإنها تلحق أكبر الضرر بمصالح جموع المهجرين.
تلعب السياسات العامة في البلدان المستقبلة للمهجرين السوريين، والتي تنظم وجودهم، دوراً رئيساً في اندماجهم في بلدان هجرتهم، فتأمين شروط استقبالٍ جيدةٍ، وسرعة إجراءات تأمين السكن، ودورة اللغة والتدريب إن لزم الأمر، ومن ثم المساعدة في إيجاد عمل، كل هذا يهيئ تجربةً شخصيةً مشجعةً على الاندماج. وفي المقابل، يلعب موقف المجتمع المحيط بالمهجر ومدى الترحيب به من عدمه أو التعامل الطبيعي معه أم التمييز ضده في محيطه في السكن، وفي حياته اليومية في الشارع، وفي وسائط النقل العامة والمقاهي والشارع، دوراً في تكوين تجربةٍ شخصيةٍ، موجبة أم سالبة، تجاه الاندماج.
ومثلما هي مصلحة البلد المستقبل أن يساعد المهجر على الاندماج في مجتمعه الجديد، فإن مصلحة المهجر هي في مساعدة نفسه على الاندماج أيضاً، وأن يكتسب من مجتمعه الجديد قيماً ومبادئ وأفكاراً عصرية، وأن يحترم ثقافة مجتمعه الجديد وقيمه. ويمكن أن يتم هذا من دون التخلي عن ما في ثقافته وقيمه وعاداته من قيم موجبة. ولكن، عليه بالتأكيد، التخلي عن كثير من قيمٍ وعاداتٍ، تتعارض مع الحياة العصرية الحديثة.