عن تهافت المطبّعين

17 فبراير 2020
+ الخط -
أعاد اللقاء الذي جمع رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان، عبدالفتاح البرهان، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في أوغندا، النقاش مجدّداً بشأن التطبيع مع إسرائيل وحيثياته، والغرض منه في هذا الوقت، ومقصد ساسة دول عربية رتّبوا هذا اللقاء، ودفعوا البرهان إليه من دون علم الحكومة السودانية. ويبدو أن هؤلاء كانوا يأملون في أن يدشّن اللقاء تحولاً كبيراً في علاقات إسرائيل مع البلدان العربية.
وحاول مطبّعون تبرير هذه الخطوة مع إسرائيل بالتذرّع بأنها تأتي في سياق المساعي لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأميركية، عوداً إلى المقولة التي تعتبر الوصول إلى قلوب ساسة البيت الأبيض يمرّ عبر التذلل أمام أبواب ساسة تل أبيب ومصافحتهم، والتي سار عليها الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، وما تزال تفعل فعلها لدى ساسة محور دول داعمة "صفقة القرن" الأميركية، ودفعوا البرهان إلى تجاوز صلاحياته، وعدم الاحتكام إلى الوثيقة الدستورية والسلطة الانتقالية في السودان. وهذا ما يفسر ردّ الفعل الغاضب لتجمّع المهنيين السودانيين وقوى إعلان الحرية والتغيير التي اعتبرت لقاء البرهان مع نتنياهو "تجاوزاً كبيراً للسلطة التنفيذية". إضافة إلى ردّ فعل معظم القوى والأحزاب السودانية الرافضة للتطبيع مع إسرائيل، فضلاً عن الرفض الشعبي الواسع.
ولا تخفي الذرائع التي يقدمها المتهافتون على التطبيع حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد تقبل من أنظمتهم مواقف متأرجحة أو مزدوجة أو قابلة للتأويل، من إسرائيل، خصوصا بعد إعلان البيت الأبيض خطته للسلام في الشرق الأوسط، حيث اعتاد مسؤولو الأنظمة العربية على إظهار عدائهم اللفظي لإسرائيل في خطاباتهم أمام الشعوب العربية، فيما يلتزمون الصمت أمام المسؤولين الأميركيين والغربيين عن كل ارتكابات إسرائيل وجرائمها، ولا يجرؤون على ذكر كلمة تنصر الشعب العربي الفلسطيني، أو تطالب بحقوقه المشروعة. وباتت إدارة الرئيس دونالد ترامب تطالب ساسة الأنظمة المطبّعة بأن يفصحوا عن موقفهم الحقيقي حيال إسرائيل، تماشياً وإسناداً لموقف أركان هذه الإدارة نفسها، ولذلك شهدنا ولأول مرة أنظمة أيّدت علناً الصفقة المجحفة بحق الشعب الفلسطيني.
ولا يخرج اللقاء بين البرهان ونتنياهو عن نهج المتهافتين على التطبيع من الساسة العرب في 
الهرولة نحو التطبيع مع إسرائيل، ويحاولون تبرير تهافتهم، أحياناً من باب المصادفة، وأحياناً أخرى من باب الاقتصاد والرياضة والسياحة وسوى ذلك. ويُذكّر تهافتهم بتهافت أصوات كانت تنادي بالتطبيع مع إسرائيل في بعض الدول العربية، ومنها السودان، خلال الأعوام الأخيرة من حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، ومنها دعوة وزير خارجيته، إبراهيم غندور، الذي اعتبر التطبيع مع إسرائيل المدخل لتطبيع العلاقات مع واشنطن، بغية إزالة العقوبات الأميركية المفروضة على السودان منذ نحو عقدين.
وإذ تفيد دراسات بأن التبادل التجاري بين إسرائيل والدول العربية السائرة في ركب التطبيع بلغ حول 9% من إجمالي التجارة العربية مع دول العالم سنوياً، إلا أنه بقي محصوراً بذلك، ولم يصل إلى مستوى التطبيع الشعبي، إذ ترفضه غالبية الشعبين، المصري والأردني، على الرغم من الاتفاقيات الرسمية المبرمة. ولم تتمكن إسرائيل من تشكيل تكتل اقتصادي حقيقي مع دول المنطقة، ولا من خلال اتباع ما يطلق عليه نظام العلاقات التجارية الثنائية، عبر قيام علاقات مع كل بلد عربي على حدة، في انتظار زيادة عدد الدول المتعاملة مع إسرائيل، وبما يمكّنها من أن تكون محوراً رئيسياً في التعاملات التجارية والاقتصادية مع هذه الدول.
وهنالك من يربط بين التطبيع مع إسرائيل وثورات الربيع العربي، بادّعاء أن هذه الثورات ليست معادية لإسرائيل، بينما يكشف واقع الحال أنها، بموجتيها الأولى والثانية، كشفت عن تقاطع مصالح الأنظمة العربية السائدة وقوى الثورة المضادة مع مصالح إسرائيل في إجهاض الثورات العربية، حيث تسارعت خطوات التطبيع مع إسرائيل بعد العام 2012، مع تحميل الفلسطينيين مسؤولية استمرار الصراع مع الكيان الصهيوني، بل إن أصواتاً باتت تنادي بالتحالف مع إسرائيل لمواجهة المشروع الإيراني. وإذا كانت الموجة الأولى قد أجهضت في أكثر من بلد عربي، إلا أن الشعوب العربية لم تستكن للاستبداد وداعميه، بل انطلقت الموجة الثانية من الثورات في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، فحاولت أنظمة عربية استغلالها، وكذلك فعلت إسرائيل وروسيا معها، لأغراض تخدم أجنداتهما.
ولعل تصدّي قوى الثورة المضادة والأنظمة العربية وإسرائيل والغرب وروسيا للثورات العربية، ومعاداتها والعمل على إجهاضها وإفشالها بشتى الوسائل أظهر، ليس فقط المصالح المشتركة بين هذه القوى، بل فضح زيف الدعاية الصهيونية عن نقل التجربة الديمقراطية في إسرائيل إلى البلدان العربية، وأن إجهاض الثورات العربية أظهر بلا لبس أن استمرار إسرائيل في غطرستها وعدوانيتها مرهونٌ باستمرار أنظمة الفساد والاستبداد في البلدان العربية، ولذلك كان من الطبيعي أن يتدخل نتنياهو لدى إدارة الرئيس الأميركي السابق، أوباما، وسواه، من أجل الإبقاء على نظام الأسد الإجرامي وإجهاض الثورة السورية.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".