13 فبراير 2022
عن جيل إسماعيل الإسكندراني
قبل حوالي أسبوع، ألقت السلطات المصرية القبض على الباحث إسماعيل الإسكندراني، لدى عودته من الخارج من أجل زيارة والدته. وقد اتهمته السلطات بالانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين، والقيام بنشر أخبار كاذبة. عرفت إسماعيل عن قُرب، حين عمل باحثاً زائراً في واحد من أرقى المعاهد البحثية والفكرية في واشنطن، فضلاً عن متابعتي المستمرة عمله المتميز والرائد حول سيناء التي يُعد إسماعيل، وبحق، أحد أهم الباحثين الذين سبروا أغوارها.
لا أود، في هذه المساحة، الكتابة عن شخص إسماعيل، وهناك الكثير مما قد يُحكي في هذا الصدد، وإنما أود الحديث عن إسماعيل رمزاً لجيل (وربما ظاهرة) بأكمله، يمكن أن نسميه مجازاً "جيل التمرد الاجتماعي". والتمرد هنا بالمعني الإيجابي الذي يهدف إلى إعادة تأسيس الأفكار والمفاهيم والرؤى على أساس عقلاني، وليس وصائي. وأعني، هنا، التمرد على القوالب الجامدة والأنماط السائدة، خصوصاً في الجانب الفكري والاجتماعي والثقافي. ينتمي إسماعيل، وبحق، إلى جيل ثورة يناير التي كانت، بمعنى من المعاني، تمرداً سياسياً واجتماعياً قوياً ليس فقط ضد السلطة، بمعناها الضيق، وإنما ضد المجتمع والدولة. وهو جيلٌ لم يتبع القواعد الكلاسيكية للاشتباك السياسي، من خلال العمل الحزبي الذي ينتهي، في الغالب، إلى لا شيء، وإنما اختار الاشتباك المباشر مع المجتمع، من خلال عمليات الحشد والتعبئة وتحدّي السلطة من خلال رعاياها. جيل تمرد على السلطة الأبوية في التنظيم والحزب والمدرسة والجامعة والأسرة، وقرّر أن يكون طرفاً مهما في تحديد مصيره بيده.
انتمى إسماعيل، في مرحلة من عمره، إلى جماعة الإخوان، وهو ما لم يُنكره مطلقاً، لكنه قرّر التمرد أو الخروج من "ضيق التنظيم" إلى "سعة الفكر"، ومن إلزامية "التعاليم" إلى رحابة "الإبداع". وهو لا يختلف عن كثيرين تركوا الجماعة، خصوصاً في مرحلة ما بعد الثورة، إما لعدم وجود أفق بداخلها لهم، أو لعدم سعة أفكارها لطموحاتهم وآمالهم، فانطلق إلى مساحاتٍ أخرى للعمل والتفكير والتعبير عن الذات، فكان أكثر تأثيراً وقدرة على التواصل مع قطاعات أخرى، عابرة للأيديولوجيا والتحزب، سواء داخل جيله أو من هم قبله.
بيد أن أبرز ما يميز جيل الإسكندراني عن غيره من الأجيال، هو تحدي "سردية" الدولة وهدم أساطيرها حول ذاتها وحول المجتمع، من خلال طرح أسئلةٍ كثيرة شائكة، بجدية، سواء تجاه ما هو مسكوت عنه في المجتمع، أو بتفكيك المقولات والأساطير السائدة حول هذه القضايا والموضوعات. وعلى مدار الأعوام الأربعة الماضية، كانت كتابات إسماعيل وأطروحاته، وحتى مداخلاته في "فيسبوك" تجسيداً حياً لهذا التفكيك المستمر. حتى اللغة التي يستخدمها المنتمون لهذا الجيل، وإن كان هناك من يعترض عليها، لخروجها عن المألوف، فإنها، بحد ذاتها، دليل على نزعة "التمرد"، وتجاوز ما هو معتاد في التعبير عن الذات، وعن الأفكار وعن المجتمع. لذا، يجب فهم هذا "التمرد اللغوي" جزءاً من حالة التمرد الأوسع لدى أبناء هذا الجيل.
تمثل كتابات إسماعيل عن سيناء خروجاً عما هو سائد، وتحدياً لسردية الدولة التي روجتها، ولا
تزال، حول الأوضاع هناك، ليس فقط من الناحية المعلوماتية، وإنما أيضا سوسيولوجياً وأنثروبولوجيا. وهو دائماً ما ينزعج من أن يصفه أحد بأنه "صحفي"، مؤكداً أنه يبحث، بشكل أكثر عمقاً، في البنية الاجتماعية وتفاعلاتها وعلائقها التي تشكل سيناء. وكل من احتك بإسماعيل، أو تعامل معه عن قرب، يعرف أنه لم يكن مجرد "ناقل" للخبر، خصوصاً عما يحدث في سيناء، وإنما، وهذا هو الأهم، كان يبحث دائماً عما وراء هذا الخبر، وتحديداً عن "البشر" الذين يشكلون "مادة الخبر"، والذين تتعاطى معهم السلطة وإعلامها باعتبارهم أرقاماً فقط.
كتابات إسماعيل الإسكندراني، وليست التهمة التي وجهتها له السلطات بالانتماء للإخوان المسلمين، هي السبب الحقيقي لاعتقاله واحتجازه. فالسلطة الحالية هي سلطة ضد الحقيقة وضد العقل وضد المنطق. وهي السلطة نفسها التي جرّمت وحرّمت على الصحفيين والإعلاميين نشر أية رواية غير روايتها عن الأوضاع في مصر، وخصوصاً في سيناء. الأكثر من ذلك، أن انحيازات إسماعيل، ممثلا لجيله من العاملين في الحقل البحثي والحقوقي نفسه، ليست للسلطة أو للدولة، وإنما للإنسان، فقد كان حريصاً، في كتاباته عن سيناء، أن يعيد تقديمه للقارئ بشكل مختلف تماماً عما تقدمه به السلطة. وأزعم أن كثيرين، وأنا منهم، رأوا "الإنسان السيناوي"، إذا جاز التعبير، بشكلٍ مختلف من خلال كتابات إسماعيل عن أسر سيناء وعائلاتها وقبائلها.
اعتقال إسماعيل هو اعتقال لجيل بأكمله، واعتقال للرواية الأخرى للتاريخ، واعتقال للصوت الآخر للخبر، واعتقال للمعنى الآخر للإنسان. عاش جيل الإسكندراني الثورة بكل أفراحها وأتراحها، بل هو تجسيد حي للصراع الدائرة بين هذه الثورة وأنظمة شائخة ذات أساطير بالية. ولمَ لا، وهو جيل يتعاطى، بسخرية منقطعة النظير، مع هذه الأنظمة، من أجل تحطيم أساطيرها حول ذاتها وحول المجتمع، وهو حتماً جيل سينتصر.
لا أود، في هذه المساحة، الكتابة عن شخص إسماعيل، وهناك الكثير مما قد يُحكي في هذا الصدد، وإنما أود الحديث عن إسماعيل رمزاً لجيل (وربما ظاهرة) بأكمله، يمكن أن نسميه مجازاً "جيل التمرد الاجتماعي". والتمرد هنا بالمعني الإيجابي الذي يهدف إلى إعادة تأسيس الأفكار والمفاهيم والرؤى على أساس عقلاني، وليس وصائي. وأعني، هنا، التمرد على القوالب الجامدة والأنماط السائدة، خصوصاً في الجانب الفكري والاجتماعي والثقافي. ينتمي إسماعيل، وبحق، إلى جيل ثورة يناير التي كانت، بمعنى من المعاني، تمرداً سياسياً واجتماعياً قوياً ليس فقط ضد السلطة، بمعناها الضيق، وإنما ضد المجتمع والدولة. وهو جيلٌ لم يتبع القواعد الكلاسيكية للاشتباك السياسي، من خلال العمل الحزبي الذي ينتهي، في الغالب، إلى لا شيء، وإنما اختار الاشتباك المباشر مع المجتمع، من خلال عمليات الحشد والتعبئة وتحدّي السلطة من خلال رعاياها. جيل تمرد على السلطة الأبوية في التنظيم والحزب والمدرسة والجامعة والأسرة، وقرّر أن يكون طرفاً مهما في تحديد مصيره بيده.
انتمى إسماعيل، في مرحلة من عمره، إلى جماعة الإخوان، وهو ما لم يُنكره مطلقاً، لكنه قرّر التمرد أو الخروج من "ضيق التنظيم" إلى "سعة الفكر"، ومن إلزامية "التعاليم" إلى رحابة "الإبداع". وهو لا يختلف عن كثيرين تركوا الجماعة، خصوصاً في مرحلة ما بعد الثورة، إما لعدم وجود أفق بداخلها لهم، أو لعدم سعة أفكارها لطموحاتهم وآمالهم، فانطلق إلى مساحاتٍ أخرى للعمل والتفكير والتعبير عن الذات، فكان أكثر تأثيراً وقدرة على التواصل مع قطاعات أخرى، عابرة للأيديولوجيا والتحزب، سواء داخل جيله أو من هم قبله.
بيد أن أبرز ما يميز جيل الإسكندراني عن غيره من الأجيال، هو تحدي "سردية" الدولة وهدم أساطيرها حول ذاتها وحول المجتمع، من خلال طرح أسئلةٍ كثيرة شائكة، بجدية، سواء تجاه ما هو مسكوت عنه في المجتمع، أو بتفكيك المقولات والأساطير السائدة حول هذه القضايا والموضوعات. وعلى مدار الأعوام الأربعة الماضية، كانت كتابات إسماعيل وأطروحاته، وحتى مداخلاته في "فيسبوك" تجسيداً حياً لهذا التفكيك المستمر. حتى اللغة التي يستخدمها المنتمون لهذا الجيل، وإن كان هناك من يعترض عليها، لخروجها عن المألوف، فإنها، بحد ذاتها، دليل على نزعة "التمرد"، وتجاوز ما هو معتاد في التعبير عن الذات، وعن الأفكار وعن المجتمع. لذا، يجب فهم هذا "التمرد اللغوي" جزءاً من حالة التمرد الأوسع لدى أبناء هذا الجيل.
تمثل كتابات إسماعيل عن سيناء خروجاً عما هو سائد، وتحدياً لسردية الدولة التي روجتها، ولا
كتابات إسماعيل الإسكندراني، وليست التهمة التي وجهتها له السلطات بالانتماء للإخوان المسلمين، هي السبب الحقيقي لاعتقاله واحتجازه. فالسلطة الحالية هي سلطة ضد الحقيقة وضد العقل وضد المنطق. وهي السلطة نفسها التي جرّمت وحرّمت على الصحفيين والإعلاميين نشر أية رواية غير روايتها عن الأوضاع في مصر، وخصوصاً في سيناء. الأكثر من ذلك، أن انحيازات إسماعيل، ممثلا لجيله من العاملين في الحقل البحثي والحقوقي نفسه، ليست للسلطة أو للدولة، وإنما للإنسان، فقد كان حريصاً، في كتاباته عن سيناء، أن يعيد تقديمه للقارئ بشكل مختلف تماماً عما تقدمه به السلطة. وأزعم أن كثيرين، وأنا منهم، رأوا "الإنسان السيناوي"، إذا جاز التعبير، بشكلٍ مختلف من خلال كتابات إسماعيل عن أسر سيناء وعائلاتها وقبائلها.
اعتقال إسماعيل هو اعتقال لجيل بأكمله، واعتقال للرواية الأخرى للتاريخ، واعتقال للصوت الآخر للخبر، واعتقال للمعنى الآخر للإنسان. عاش جيل الإسكندراني الثورة بكل أفراحها وأتراحها، بل هو تجسيد حي للصراع الدائرة بين هذه الثورة وأنظمة شائخة ذات أساطير بالية. ولمَ لا، وهو جيل يتعاطى، بسخرية منقطعة النظير، مع هذه الأنظمة، من أجل تحطيم أساطيرها حول ذاتها وحول المجتمع، وهو حتماً جيل سينتصر.