عن نظام "إقليمي" سلطوي وطائفي وأناني

14 سبتمبر 2018
+ الخط -
يؤرّخ بعضُهم لسقوط النظام الإقليمي العربي مع الغزو العراقي للكويت في الثاني من أغسطس/آب عام 1990. في حين بقيت "جثته" معلّقة حتى جاء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فقضى على ما تبقّى منها، وذلك بعد أن وقف العرب موقف المتفرّج منه، من دون أن يتحرّك لهم ساكن. ويتم استدعاء هذا النظام فقط حين يحتاجه بعضهم لتبرير موقف هنا أو سياسة هناك، وذلك حسبما تقتضي الحاجة، ومن أجل حفظ ماء الوجه أمام الشعوب. ثم جاء "الربيع العربي" كي يكتب النهاية لهذا النظام، ويصدر شهادة وفاته، ويشيّعه إلى مثواه الأخير. وذلك كي تتبلور بعده تحالفاتٌ واصطفافاتٌ جديدة بين محاور وأطرافٍ رأت، ولا تزال، في هذا الربيع خطراً داهماً ينذر بسقوطها ونهايتها، ما دفعها إلى مقاومته ومحاولة بناء حائط صدٍّ لمنع ارتداداته. وتحاول الآن هذه المحاور والأطراف إقامة نظام إقليمي عربي جديد، يستبدل النظام الإقليمي الكلاسيكي بنظام جديد يقوم على ثلاثة أسس:
الانتقال من المركز إلى الأطراف، وإعادة التموضع الاستراتيجي، وتصفية القضية الفلسطينية. بالنسبة للأساس الأول، في ظل انهيار دول المركز العربي وحواضره (العراق ومصر وسورية)، والتي كانت بمثابة "القلب" المحرّك للنظام العربي القديم، وذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية عديدة، تسعى بعض الأطراف والهوامش إلى استلام القيادة، وتحديد بوصلة العالم العربي، وهي تفعل ذلك وسط عواصف وتقلبات إقليمية ودولية غير مسبوقة. لكنها تفعل ذلك، ليس خدمةً لمصالح الشعوب، وإنما لخدمة مصالحها كأنظمة سلطوية تخشى التغيير وتحاربه بكل الطرق. وهي تعتمد، في ذلك، على ثرواتٍ هائلة، ومستوى من العسكرة والتسليح غير مسبوق، ودعم دولي يبدو غير محدود، لكنه مؤقت ومتقلب. وبالنسبة للعنصر الثاني، تقوم دول الأطراف بإعادة التموضع الاستراتيجي، من خلال بناء تحالفات جديدة، يُستبدل فيها الخصوم والأعداء التقليديون بصناعة خصوم وأعداء جدد، سواء من خلال التجييش الطائفي أو عبر افتعال أزماتٍ تحرّكها ضغائن تاريخية، ومراهقة سياسية، وغيرة اقتصادية. ومعضلة هذه التحالفات أنها لا تأتي فقط على حساب القضية الرئيسية للأمة العربية، قضية فلسطين، وإنما بالتحالف والتواطؤ مع خصمها الرئيسي، إسرائيل. وقد ركبت هذه الأطراف على عربة السير الإسرائيلية، بتضخيم الخطر الإيراني، واعتباره التهديد الرئيسي لأمن المنطقة كلها. صحيحٌ أن إيران متورّطة في كوارث عربية عديدة، ولكن أن تتم مواجهتها بالمنطق الإسرائيلي فهو كارثة أكبر. ولا مبالغة في القول إن إسرائيل هي المستفيد الوحيد من تصعيد التوتر بين العرب وإيران، وذلك بعد أن تخلصت، بطرقٍ مختلفة، من كل خصومها التقليديين (مصر والعراق وسورية). أما الأساس الثالث فهو تصفية القضية الفلسطينية تماماً والتخلص من تبعاتها. وهو ما نراه بوضوح في التطورات الأخيرة، سواء الخاصة بما تسمّي "صفقة القرن" المشينة، والتي تم تأجيلها بسبب المشكلات الداخلية للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولانشغالات دول الأطراف بمشكلاتها وأزماتها الإقليمية. كما نرى ذلك أيضا في الصمت العربي المخجل على ما تقوم به الإدارة الأميركية، سواء فيما يخص إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، أو وقف تمويلها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا)، والذي من شأنه زيادة الضغط والحصار الاقتصادي على الفلسطينيين، خصوصا في قطاع غزة.
بكلماتٍ أخرى، نحن إزاء محاولة حثيثة لإقامة نظام إقليمي جديد يقوم على السلطوية، والطائفية، والأنانية السياسية، تقوم ببنائه ودعمه دول الأطراف، في ظل انشغال دول المركز بمشكلاتها وأزماتها الداخلية.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".