03 مايو 2021
عن يوميات باشا عربي ائتمنه السلطان عبد الحميد
تشبه قصة العثور على يوميات أحمد عزت باشا العابد (1852- 1924)، السكرتير الثاني للسلطان عبد الحميد الثاني (1842ـ 1918)، ورجل المهمات الصعبة والخفية، رواية بوليسية غامضة؛ حلّ لغزها أحدُ أحفاد الباشا بعد بحث دؤوب استمر ثلاثة عقود؛ وكلل بالنجاح، حيث يُؤمل أن تساهم اليوميات في إعادة كتابة تاريخ السلطنة العثمانية في سنواتها الأخيرة، قبل انقلاب جمعية الاتحاد والترقي في عام 1908.
بدأت القصة حين فرغ عزت باشا العربي، كما تسميه المصادر التركية، من كتابة يومياته البالغة خمسة دفاتر باللغة التركية العثمانية في 1918، عن القضايا الحيوية للدولة، والملفات التي كلف بها، ونتائج زياراته السرية إلى العواصم الغربية، وأحاديثه مع السلطان بشأن أدقّ القضايا، ومنها القضية الأرمنية.
وقد أوصى الباشا بعدم نشر هذه اليوميات، إلا بعد مضيّ مائة عام عليها، وأودعها عند ابنته لمعة هانم التي كانت تعيش متنقلةً بين الولايات المتحدة وسويسرا، فوضعت دفاتر اليوميات في خزانةٍ مستأجرة من بنك سويسري، ولم تُخبر أحداً بأمر هذه اليوميات حتى أولادها، ولكن خبرها كان منتشراً بين أبناء الباشا الغامض وأحفاده.
وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من البحث، توصل سميح ممتاز، أحد أحفاد الباشا من جهة ابنته سنية هانم، إلى مكان وجود اليوميات، بعد أن وصل إخطارٌ من البنك السويسري بأن خزانة تستأجرها العائلة تم انتهاء عقد تأجيرها، فسافر الحفيد سميح ممتاز، مع بعض أحفاد الباشا الآخرين، وفتحوا الخزنة، ليجدوا الدفاتر الخمسة كما هي، وكانت بمثابة كنزٍ عرف سميح ممتاز قيمته، فدفعه إلى الخبير باللغة العثمانية، إبراهيم كوريلية، الذي عمل عليه ثماني سنوات، ليصدر قبل شهور في مجلدين ضخمين، يضمان النص التركي المعاصر، وصور الصفحات
العثمانية كما خطها الباشا بقلمه، بالإضافة إلى ألبومٍ لصور العائلة.
مؤكّدٌ أن عزت باشا العربي لم يكن موظفاً عادياً، من بين موظفي المابين الهمايوني (القسم الخاص لكان عمل السلطان)، بدليل أن السلطان عبد الحميد، حين فرضت الإقامة الجبرية عليه، بعد الانقلاب الاتحادي، طلب منه مغادرة السلطنة، لأنهم يريدون قتله، ولم يعرف أحدٌ سبب حرص السلطان على حياة سكرتيره، أو لماذا يريدون قتله أصلاً؟ غير أن الحملة ضده كانت على أوجها في الفترة التي أعقبت خلع السلطان عبدالحميد، وهي حملةٌ مستمرة، لمسنا آثارها في مسلسل السلطان عبدالحميد التلفزيوني الذي صور الباشا العربي شخصيةً سلبية في بعض المواقف المعروفة.
وقد ذكر الزعيم السوري، فخري البارودي، أن جمهور الأتراك الغاضب من السلطان عبدالحميد كان يهتف في الساحات والشوارع ضد عزت باشا العربي، وهو ما دفع نخبةً من الطلاب العرب في إسطنبول إلى تأسيس حركة سياسية عربية، بعد أن لمسوا تطرّفاً طورانياً لدى قيادات جمعية الاتحاد والترقي وجمهورها، ومحاولة لتحميل العرب أوزار الحقبة الحميدية التي ثاروا عليها.
وكان عزت العابد، أحد رموز الثقافة العربية في زمنه، على الرغم من ولائه غير المشكوك فيه للسلطان عبد الحميد، وكان ممن وقفوا بالمرصاد لمن كان يطلق عليهم اسم "أحرار الترك" المنفيين إلى سورية في أواخر سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما تدل الوثائق المحفوظة في قصر يلدز، ومنها وثيقة يخاطب فيها السلطان عبدالحميد بشأن الإجراءات التي أعقبت عزل مدحت باشا عن ولاية سورية في عام 1880، وهو ما يدل على أنه كان، منذ ذلك الوقت، عضوا في جهاز الأمن السري، أو كما يسمّى "جهاز الخفية".
وأحمد عزت العابد دمشقي من حي الميدان خارج سور المدينة، ومن أصول عربية بدوية، إذ كان ينتمي لعشيرة المشارفة من سلالة الأمير قانص، بحسب السيرة الموجزة التي كتبها بنفسه،
وأعطاها لفيليب طرازي، مؤرخ الصحافة العربية في عام 1911. وثمّة رسالة من مشايخ دمشق وأعيانها في عام 1883 تشكر السلطنة على تعيينه مفتشاً قضائياً، وتصفه بالأمير أحمد، في تأكيدٍ على أصله البدوي النبيل. أما والده محيي الدين باشا العابد، الشهير بأبي الهول أو هولو باشا، فكان أحد أعضاء الجهاز البيروقراطي العثماني في الولايات العربية سنوات طويلة. وجدّه عمر العابد من أهم الشخصيات وأكثرها نفوذاً في ولاية سورية ما بعد الحكم المصري، وكان واسع الثراء، بسبب تجارته في الحبوب، والتزامه الأعشار عن مناطق واسعة في جنوبي بلاد الشام، وقد منح، هو وأولاده، أوسمة من الدول الأوروبية لحمايتهم مسيحيي حي الميدان من المذبحة في عام 1860.
وقد تلقّى أحمد عزت باشا مفاهيم العروبة مبكراً على يد أستاذه الشيخ ناصيف اليازجي، حين كان يدرس في بيروت، استكمالاً لتحصيله الذي بدأه في المدرسة العازارية بدمشق، ولم يلبث أن عيّن في قلم مخابرات ولاية سورية، فأصدر، في هذه المرحلة، جريدة دمشق التي كانت تنشر كثيراً عن مآثر العرب، قبل أن يصبح مفتشاً عدلياً، ثم مسؤولاً للمحاكم التجارية المختلطة، إلى أن التحق بقلم السلطان، فعين كاتباً ثانياً، ثم استقر في "المابين الهمايوني" مستشاراً ومبعوثاً خاصاً للسلطان، وكانت دائرته في المابين تسمى دائرة عزت باشا العربي. وفي أثناء هذه الفترة، كلفه السلطان بأدق المهمات السياسية والاقتصادية وأصعبها، وأهمها إنشاء الخط الحديدي الحجازي.
وكانت علاقة السلطان عبد الحميد بالباشا العربي محل حسدٍ من الكتاب الآخرين، وفي مقدمتهم الكاتب الأول تحسين باشا الذي كال له التهم الشتى، في مذكراته التي صدرت طبعتها العربية
أخيراً بترجمة كمال خوجة. وكان ثمّة انطباع لدى النخب التركية أن السلطان عبد الحميد كان يثق في العرب أكثر من ثقته في الترك العاملين معه، لأسباب شتى. ويمكن إرجاع ذلك إلى انخراط كثيرين من موظفي الجهاز الإداري في الجمعيات السرّية المناوئة لسلطته المطلقة، حيث كشف، عن طريق جهازه الأمني الحديدي، كثيرين من مساعديه الخونة، بحسب مذكّراته.
وتأخذ يوميات عزت باشا أهميتها لجملةٍ من الأسباب، منها أن ثمّة مشكلات حقيقية تعتري التأريخ لحقبة السلطان عبد الحميد، بسبب المصادر الكثيرة المنحازة، ضده أو معه. وثمّة مشكلة تتعلق بمذكرات السلطان نفسه، والتي كتبها في مقر إقامته الجبرية خلسة، حيث أثيرت حولها شكوك وشبهات كثيرة، بعد أن ظهر عبث الأيدي بها من حذف وإضافة. ولعل الإضافة الأكثر فجاجةً في هذه الإضافات هي الفقرة التي يمتدح فيها ضابطاً صغيراً زار قصره ذات يوم، يُدعى مصطفى كمال (1881- 1938)، سوف يصبح فيما بعد مؤسس تركيا الحديثة!
وقد أوصى الباشا بعدم نشر هذه اليوميات، إلا بعد مضيّ مائة عام عليها، وأودعها عند ابنته لمعة هانم التي كانت تعيش متنقلةً بين الولايات المتحدة وسويسرا، فوضعت دفاتر اليوميات في خزانةٍ مستأجرة من بنك سويسري، ولم تُخبر أحداً بأمر هذه اليوميات حتى أولادها، ولكن خبرها كان منتشراً بين أبناء الباشا الغامض وأحفاده.
وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من البحث، توصل سميح ممتاز، أحد أحفاد الباشا من جهة ابنته سنية هانم، إلى مكان وجود اليوميات، بعد أن وصل إخطارٌ من البنك السويسري بأن خزانة تستأجرها العائلة تم انتهاء عقد تأجيرها، فسافر الحفيد سميح ممتاز، مع بعض أحفاد الباشا الآخرين، وفتحوا الخزنة، ليجدوا الدفاتر الخمسة كما هي، وكانت بمثابة كنزٍ عرف سميح ممتاز قيمته، فدفعه إلى الخبير باللغة العثمانية، إبراهيم كوريلية، الذي عمل عليه ثماني سنوات، ليصدر قبل شهور في مجلدين ضخمين، يضمان النص التركي المعاصر، وصور الصفحات
مؤكّدٌ أن عزت باشا العربي لم يكن موظفاً عادياً، من بين موظفي المابين الهمايوني (القسم الخاص لكان عمل السلطان)، بدليل أن السلطان عبد الحميد، حين فرضت الإقامة الجبرية عليه، بعد الانقلاب الاتحادي، طلب منه مغادرة السلطنة، لأنهم يريدون قتله، ولم يعرف أحدٌ سبب حرص السلطان على حياة سكرتيره، أو لماذا يريدون قتله أصلاً؟ غير أن الحملة ضده كانت على أوجها في الفترة التي أعقبت خلع السلطان عبدالحميد، وهي حملةٌ مستمرة، لمسنا آثارها في مسلسل السلطان عبدالحميد التلفزيوني الذي صور الباشا العربي شخصيةً سلبية في بعض المواقف المعروفة.
وقد ذكر الزعيم السوري، فخري البارودي، أن جمهور الأتراك الغاضب من السلطان عبدالحميد كان يهتف في الساحات والشوارع ضد عزت باشا العربي، وهو ما دفع نخبةً من الطلاب العرب في إسطنبول إلى تأسيس حركة سياسية عربية، بعد أن لمسوا تطرّفاً طورانياً لدى قيادات جمعية الاتحاد والترقي وجمهورها، ومحاولة لتحميل العرب أوزار الحقبة الحميدية التي ثاروا عليها.
وكان عزت العابد، أحد رموز الثقافة العربية في زمنه، على الرغم من ولائه غير المشكوك فيه للسلطان عبد الحميد، وكان ممن وقفوا بالمرصاد لمن كان يطلق عليهم اسم "أحرار الترك" المنفيين إلى سورية في أواخر سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، كما تدل الوثائق المحفوظة في قصر يلدز، ومنها وثيقة يخاطب فيها السلطان عبدالحميد بشأن الإجراءات التي أعقبت عزل مدحت باشا عن ولاية سورية في عام 1880، وهو ما يدل على أنه كان، منذ ذلك الوقت، عضوا في جهاز الأمن السري، أو كما يسمّى "جهاز الخفية".
وأحمد عزت العابد دمشقي من حي الميدان خارج سور المدينة، ومن أصول عربية بدوية، إذ كان ينتمي لعشيرة المشارفة من سلالة الأمير قانص، بحسب السيرة الموجزة التي كتبها بنفسه،
وقد تلقّى أحمد عزت باشا مفاهيم العروبة مبكراً على يد أستاذه الشيخ ناصيف اليازجي، حين كان يدرس في بيروت، استكمالاً لتحصيله الذي بدأه في المدرسة العازارية بدمشق، ولم يلبث أن عيّن في قلم مخابرات ولاية سورية، فأصدر، في هذه المرحلة، جريدة دمشق التي كانت تنشر كثيراً عن مآثر العرب، قبل أن يصبح مفتشاً عدلياً، ثم مسؤولاً للمحاكم التجارية المختلطة، إلى أن التحق بقلم السلطان، فعين كاتباً ثانياً، ثم استقر في "المابين الهمايوني" مستشاراً ومبعوثاً خاصاً للسلطان، وكانت دائرته في المابين تسمى دائرة عزت باشا العربي. وفي أثناء هذه الفترة، كلفه السلطان بأدق المهمات السياسية والاقتصادية وأصعبها، وأهمها إنشاء الخط الحديدي الحجازي.
وكانت علاقة السلطان عبد الحميد بالباشا العربي محل حسدٍ من الكتاب الآخرين، وفي مقدمتهم الكاتب الأول تحسين باشا الذي كال له التهم الشتى، في مذكراته التي صدرت طبعتها العربية
وتأخذ يوميات عزت باشا أهميتها لجملةٍ من الأسباب، منها أن ثمّة مشكلات حقيقية تعتري التأريخ لحقبة السلطان عبد الحميد، بسبب المصادر الكثيرة المنحازة، ضده أو معه. وثمّة مشكلة تتعلق بمذكرات السلطان نفسه، والتي كتبها في مقر إقامته الجبرية خلسة، حيث أثيرت حولها شكوك وشبهات كثيرة، بعد أن ظهر عبث الأيدي بها من حذف وإضافة. ولعل الإضافة الأكثر فجاجةً في هذه الإضافات هي الفقرة التي يمتدح فيها ضابطاً صغيراً زار قصره ذات يوم، يُدعى مصطفى كمال (1881- 1938)، سوف يصبح فيما بعد مؤسس تركيا الحديثة!