01 فبراير 2019
عودة الجابري
في سياق تخليد الذكرى السابعة لرحيل المفكر محمد عابد الجابري الذي غادر حياتنا الفانية في 3 مايو/ أيار 2010، شهد المغرب كثافةً غير مسبوقةٍ في صيغ الاحتفاء والاستحضار الرمزي لإسهامات هذا المثقف الاستثنائي الذي حضر الحياة الفكرية المغربية والعربية أكثر من أربعين سنة، بالاجتهاد والسؤال والتنقيب في شروط النهضة والتقدم والحداثة.
هكذا أعلنت نخبة من الجامعيين المنشغلين بقضايا مشروعه الكبير تأسيس جمعية لأصدقائه، لتهتم إلى جانب المؤسسة الموجودة والتي تحمل اسمه، في إثراء النقاش بشأن منجزه الفكري على ضوء التحولات التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية.
إلى ذلك، عُقدت لقاءات وندوات عديدة في الرباط والدار البيضاء، وفي مدن صغيرة ومتوسطة، نظمتها مؤسسات ثقافية ذات إشعاع وطني، أو جمعيات ثقافية محلية. فضلاً عن اهتمام واضح للصحافة الثقافية، تجلى مثلاً في تخصيص مجلة "أفكار" عددها الجديد لإرث محمد عابد الجابري. وكان مثقفون قد دعوا إلى اعتبار 2017 سنة للجابري، حتى قبل أسابيع من حلول ذكرى رحيله.
اللافت أيضاً، في هذه العودة الرمزية، استحضار سؤال الديمقراطية والسياسة في إسهامات الراحل، طبعاً إلى جانب أسئلة التراث، الحداثة، الهوية والنهضة.
ولم يكن محمد عابد الجابري مجرد مفكر منعزل عن الحياة العامة، كان شاهداً وفاعلاً في دينامية ولادة الفكرة الديمقراطية ونموها في التربة المغربية، إذ قبل أن يتفرّغ للبحث والتدريس، مقدّماً استقالته من قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في بداية الثمانينيات، كان قد انخرط منذ ريعان شبابه في معارك النضال السياسي، في مختلف واجهاته الإعلامية والنقابية والحزبية والثقافية.
على أن تفرغ الجابري للبحث لم يجعله، بالضرورة، يدير ظهره لهاجس الديمقراطية، سواء من خلال حضور رهان توطين الديمقراطية وحقوق الإنسان وتأصيلهما داخل الوعي العربي المعاصر، أو من خلال استمراره مثقفاً عضوياً منشغلاً بمحطات التحول الديمقراطي في المغرب، وكل المجتمعات العربية والإسلامية.
وقد ظلت الفكرة الديمقراطية في خلفية إسهامات صاحب "نحن والتراث"، سواء بصفته منظراً ايديولوجياً لحركة سياسية يسارية في زمن البحث عن الهوية والمرجعية خلال السبعينات، أو بصفته فيلسوفاً معنياً بقضية النهضة والحداثة في العلاقة مع التراث، أو حتى بصفته مثقفاً منشغلاً بالتحولات السياسية والاجتماعية لبلاده.
هكذا حرص الجابري على الانطلاق من أنه لا علاقة للمطلب الديمقراطي البتّة بما طُرح في التجربة الإسلامية من حديث عن الشورى، ذلك أن الأخيرة ظلت تدخل في باب النصيحة وفضائل الحكام، وليس في باب الفروض والواجبات.
أكثر من ذلك، تتعلق الديمقراطية في السياق العربي، في الحقيقة، بانقلاب تاريخي لم يشهد له عالمنا الفكري والسياسي والاجتماعي مثيلاً، ما يتطلب وعياً حادّاً بتعقد مسارات البناء الديمقراطي، ذلك أن الانتكاسات والارتباكات الممكنة لهذه الدينامية لا يجب عن تجعلنا نكفر بالفكرة الديمقراطية نفسها.
الأمر ميلاد عسير ومرحلة جديدة، وهو ما قد يحتاج إلى عملية قيصرية، كما يوضح صاحب مشروع "نقد العقل العربي".
ولأنه كذلك، ليست المسألة فقط مسألة تدبير سياسي لموازين القوى، بل هي في العمق معركة تأصيل ثقافي، إذ يحتاج التأسيس للديمقراطية إلى تكسير البنية الذهنية اللاشعورية، القائمة على نقل عقيدة التوحيد من مجال الدين إلى مجال السياسة، كما يحتاج إلى نقد (وتجاوز) شكوك الأيديولوجيا العربية المعاصرة بشأن الديمقراطية، سواء من حيث اعتبارها حالة اغتراب ثقافي، أو مجرد أداةٍ لخدمة الطبقة البورجوازية، أو مطلباً غير مطابق للشرط الاجتماعي لبلداننا.
يحضر التفكير في الديمقراطية داخل أعمال الجابري ضمن مقاربةٍ وظيفيةٍ تربط المشروع الديمقراطي بوظيفته التاريخية داخل مجتمعاتنا، حيث يصبح الانتقال إلى الديمقراطية، عندما يوضع في سياق التحول الحضاري الكبير من ثقافة البادية والقبيلة إلى مجتمعات المأسسة والعقلانية، ضرورة ملحة لمرافقة هذا التحول وتأطير مخرجاته في اتجاه التقدم والحداثة.
على أن هذا الانتقال يظل في حاجةٍ إلى قيام كتلة تاريخية، تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرّك جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردّد بين صفوف الشعب، سواء انطلقت من شعارات الحرية أو الأصالة أو الاشتراكية أو العدل.
تبقى الديمقراطية عند الجابري، مع استحضار كل ما سبق، موضوعاً لمعركة نضالية طويلة النفس، ذلك أن "الكلمة لا تعطى، الحقوق لا تمنح، وإنما تؤخذ. ويجب أن نأخذها. يجب فرض الديمقراطية فرضاً.. طال الزمن أو قصر. ويجب دفع الثمن، صغر الثمن أو كبر".
إلى ذلك، عُقدت لقاءات وندوات عديدة في الرباط والدار البيضاء، وفي مدن صغيرة ومتوسطة، نظمتها مؤسسات ثقافية ذات إشعاع وطني، أو جمعيات ثقافية محلية. فضلاً عن اهتمام واضح للصحافة الثقافية، تجلى مثلاً في تخصيص مجلة "أفكار" عددها الجديد لإرث محمد عابد الجابري. وكان مثقفون قد دعوا إلى اعتبار 2017 سنة للجابري، حتى قبل أسابيع من حلول ذكرى رحيله.
اللافت أيضاً، في هذه العودة الرمزية، استحضار سؤال الديمقراطية والسياسة في إسهامات الراحل، طبعاً إلى جانب أسئلة التراث، الحداثة، الهوية والنهضة.
ولم يكن محمد عابد الجابري مجرد مفكر منعزل عن الحياة العامة، كان شاهداً وفاعلاً في دينامية ولادة الفكرة الديمقراطية ونموها في التربة المغربية، إذ قبل أن يتفرّغ للبحث والتدريس، مقدّماً استقالته من قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في بداية الثمانينيات، كان قد انخرط منذ ريعان شبابه في معارك النضال السياسي، في مختلف واجهاته الإعلامية والنقابية والحزبية والثقافية.
على أن تفرغ الجابري للبحث لم يجعله، بالضرورة، يدير ظهره لهاجس الديمقراطية، سواء من خلال حضور رهان توطين الديمقراطية وحقوق الإنسان وتأصيلهما داخل الوعي العربي المعاصر، أو من خلال استمراره مثقفاً عضوياً منشغلاً بمحطات التحول الديمقراطي في المغرب، وكل المجتمعات العربية والإسلامية.
وقد ظلت الفكرة الديمقراطية في خلفية إسهامات صاحب "نحن والتراث"، سواء بصفته منظراً ايديولوجياً لحركة سياسية يسارية في زمن البحث عن الهوية والمرجعية خلال السبعينات، أو بصفته فيلسوفاً معنياً بقضية النهضة والحداثة في العلاقة مع التراث، أو حتى بصفته مثقفاً منشغلاً بالتحولات السياسية والاجتماعية لبلاده.
هكذا حرص الجابري على الانطلاق من أنه لا علاقة للمطلب الديمقراطي البتّة بما طُرح في التجربة الإسلامية من حديث عن الشورى، ذلك أن الأخيرة ظلت تدخل في باب النصيحة وفضائل الحكام، وليس في باب الفروض والواجبات.
أكثر من ذلك، تتعلق الديمقراطية في السياق العربي، في الحقيقة، بانقلاب تاريخي لم يشهد له عالمنا الفكري والسياسي والاجتماعي مثيلاً، ما يتطلب وعياً حادّاً بتعقد مسارات البناء الديمقراطي، ذلك أن الانتكاسات والارتباكات الممكنة لهذه الدينامية لا يجب عن تجعلنا نكفر بالفكرة الديمقراطية نفسها.
الأمر ميلاد عسير ومرحلة جديدة، وهو ما قد يحتاج إلى عملية قيصرية، كما يوضح صاحب مشروع "نقد العقل العربي".
ولأنه كذلك، ليست المسألة فقط مسألة تدبير سياسي لموازين القوى، بل هي في العمق معركة تأصيل ثقافي، إذ يحتاج التأسيس للديمقراطية إلى تكسير البنية الذهنية اللاشعورية، القائمة على نقل عقيدة التوحيد من مجال الدين إلى مجال السياسة، كما يحتاج إلى نقد (وتجاوز) شكوك الأيديولوجيا العربية المعاصرة بشأن الديمقراطية، سواء من حيث اعتبارها حالة اغتراب ثقافي، أو مجرد أداةٍ لخدمة الطبقة البورجوازية، أو مطلباً غير مطابق للشرط الاجتماعي لبلداننا.
يحضر التفكير في الديمقراطية داخل أعمال الجابري ضمن مقاربةٍ وظيفيةٍ تربط المشروع الديمقراطي بوظيفته التاريخية داخل مجتمعاتنا، حيث يصبح الانتقال إلى الديمقراطية، عندما يوضع في سياق التحول الحضاري الكبير من ثقافة البادية والقبيلة إلى مجتمعات المأسسة والعقلانية، ضرورة ملحة لمرافقة هذا التحول وتأطير مخرجاته في اتجاه التقدم والحداثة.
على أن هذا الانتقال يظل في حاجةٍ إلى قيام كتلة تاريخية، تنبني على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرّك جميع التيارات التي تنجح في جعل أصدائها تتردّد بين صفوف الشعب، سواء انطلقت من شعارات الحرية أو الأصالة أو الاشتراكية أو العدل.
تبقى الديمقراطية عند الجابري، مع استحضار كل ما سبق، موضوعاً لمعركة نضالية طويلة النفس، ذلك أن "الكلمة لا تعطى، الحقوق لا تمنح، وإنما تؤخذ. ويجب أن نأخذها. يجب فرض الديمقراطية فرضاً.. طال الزمن أو قصر. ويجب دفع الثمن، صغر الثمن أو كبر".