13 نوفمبر 2024
عودة الدولة البوليسية
عادت المنظمات الحقوقية لتدق ناقوس الخطر. الدولة البوليسية عائدة وبقوة إلى دول الربيع العربي. ليس الأمر جديداً، فالدولة البوليسية لم تختف قط، توارت بعض الوقت في الدول التي شهدت ثورات شعبية أطاحت رؤوس أنظمتها، ثم عادت لتستعرض عضلاتها بقوة. أحدث إنذار جاء من منظمة العفو الدولية، في تنديد تقريرها، أخيراً، أصدرته بمناسبة الذكرى الخامسة للثورة المصرية، بـ"العودة إلى الدولة البوليسية". وهي عودة شخصها التقرير في القوانين القمعية والمحاكمات غير العادلة والأحكام القاسية والاعتقالات والتعذيب والانتهاكات والمنع. ويخلص التقرير إلى أن الأبواب أوصدت فعليا أمام الآمال التي انعقدت على ثورة 25 يناير2011. فبعد خمسة أعوام على قيام الثورة وإسقاط النظام السابق، تمت مصادرة الثورة، وعادت مصر لتصبح مرة أخرى "دولة بوليسية".
وحتى في تونس التي ما تزال تمثل آخر بارقة أمل لنجاح ثورات الربيع العربي، فقدت الكثير من بريقها بسبب التراجعات التي سجلت في مجال احترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة والقوانين ذات العلاقة بمكافحة الإرهاب. جسد نظام الرئيس التونسي الهارب، زين العابدين بن علي، نموذجا للدولة البوليسية بامتياز، تمثل في احتكار مصادر القوة والسلطة داخل الدولة، ومصادرته كل الحقوق والحريات، والحرب التي أعلنها على المجتمع وقيمه، والحضور القوي لجهاز الشرطة والأمن في كل تفاصيل حياة التونسيين. وعندما انهار النظام، اختفت مظاهر "الدولة البوليسية"، لكن شبحها ظل قائماً، ليعود ويطل من جديد مع قوانين الإرهاب التي فرضتها الحوادث الأمنية والجرائم الإرهابية المتكرّرة التي تُتخذ اليوم ذريعة لتبرير عودة ممارسات الدولة البوليسية في تونس.
ولم تفارق الدول البوليسية باقي البلدان العربية، مع استثناء التي انهارت فيها الدولة، مثل ليبيا واليمن وسورية. وهي لا تختزل في الحضور القوي لجهاز بوليسي قمعي، وإنما في طريقة الحكم. وبالنظر اليوم إلى أغلب الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، فإن بنياتها العميقة تقوم على الدولة البوليسية التي تتمثل في احتكار السلطات الثلاث، أو إفراغها من محتواها حتى لا تصبح في الدولة سوى سلطة واحدة، هي سلطة الضبط والتحكم، والتحكم في الاقتصاد، في غياب الشفافية وقواعد الحكامة الجيدة، وضبط المجتمع من خلال قوانين متحكم فيها، والسيطرة على الرأي العام، بواسطة وسائل إعلام عمومية موجهة، أو إعلام خاص مراقب، وقمع الشعب باستعمال كل أشكال القمع المعنوية والمادية.
النقيض المباشر للدولة البوليسية هو الدولة الحرة، أي الدولة التي يستطيع أن يعيش فيها الناس
بحرية بعيداً عن كوابيس الخوف التي تلاحق من يعيش في دولة بوليسية. والفرق بين الدولتين هو إيجاد التوازن المناسب بين الحرية الفردية والأمن القومي. فالدول البوليسية غالباً ما تتخذ من الأمن القومي ذريعة لتقييد الحريات وضبطها أو قمعها ومنعها، حسب نوع الدولة البوليسية، قمعية أم ذكية. والفرق بين النوعين أن الدولة البوليسية القمعية تكون مفضوحة تمارس قمعها في وضوح النهار، وبالتالي هي سهلة الانتقاد. أما الذكية، فهي أخطر، لأنه يصعب فضحها وانتقادها، بما أنها تمارس قمعها تحت غطاء "شرعي"، تسنه قوانينها بمبرّرات الحفاظ على أمنها.
ونجد هذا النوع الثاني من الأنظمة البوليسية في أغلب الدول العربية التي عرفت كيف تحني ظهرها لعاصفة الربيع العربي، وأغلبها استفاد من الدرس، وطوّر أساليب وطرق عمله. وهنا خطورة هذا النوع من الأنظمة البوليسية الجديدة التي باتت تستعمل "القانون"، وليس "الأمن" فقط، أداة تسلطية تمكّنها من الحفاظ على سلطتها وتسلطها بقفاز من حرير.
ليست الدولة البوليسية هي الدولة الديكتاتورية، فهي أذكى من غباء الديكتاتوريات، تحاول أن تحافظ على "الحد الأدنى" من مظاهر الديمقراطية. تسمح بهامش مراقب لتعددية حزبيةٍ متحكم فيها، وتفسح المجال لتنافس اقتصادي، تديره في الخفاء، وتترك المجال لبروز وسائل إعلام خاصة، توحي بالتنوع، لكنها تعبر عن الصوت نفسه، وتنشئ مجتمعاً مدنياً مطواعاً إلى درجة التمييع.
باختصار، الدولة البوليسية الحديثة هي دولة المظاهر بامتياز، تُبهر ولا تقنع، تقمع ولكن باستعمال قوانينها، تَعاملها مع الحرية انتقائي، أما الدين فتعرف كيف تستغله بذكاء كسلاح ذي حدين. فهي ضده لقمع خصومها وضربهم، ومعه من أجل تخدير مواطنيها.
ما نشهده اليوم في أكثر من بلد عربي هو إعادة نموذج جديد من "الدولة البوليسية"، يختلف عن نموذج الدولة البوليسية الأفقية التي جسدها بذكاء جورج أورويل في روايته "1984"، دولة "الأخ الأكبر". الدولة البوليسية التي تُعيد إنتاجها اليوم هي دولة تُحكم وتُسير عمودياً، من خلال أجهزة الضبط والتحكم التي تخترق الدولة والمجتمع والقوانين والقيم والدين والفكر. إنها مثل سرطانٍ يتمدّد في الخفاء، ويتحكم في كامل الجسد حتى يشله.
وحتى في تونس التي ما تزال تمثل آخر بارقة أمل لنجاح ثورات الربيع العربي، فقدت الكثير من بريقها بسبب التراجعات التي سجلت في مجال احترام حقوق الإنسان وحرية الصحافة والقوانين ذات العلاقة بمكافحة الإرهاب. جسد نظام الرئيس التونسي الهارب، زين العابدين بن علي، نموذجا للدولة البوليسية بامتياز، تمثل في احتكار مصادر القوة والسلطة داخل الدولة، ومصادرته كل الحقوق والحريات، والحرب التي أعلنها على المجتمع وقيمه، والحضور القوي لجهاز الشرطة والأمن في كل تفاصيل حياة التونسيين. وعندما انهار النظام، اختفت مظاهر "الدولة البوليسية"، لكن شبحها ظل قائماً، ليعود ويطل من جديد مع قوانين الإرهاب التي فرضتها الحوادث الأمنية والجرائم الإرهابية المتكرّرة التي تُتخذ اليوم ذريعة لتبرير عودة ممارسات الدولة البوليسية في تونس.
ولم تفارق الدول البوليسية باقي البلدان العربية، مع استثناء التي انهارت فيها الدولة، مثل ليبيا واليمن وسورية. وهي لا تختزل في الحضور القوي لجهاز بوليسي قمعي، وإنما في طريقة الحكم. وبالنظر اليوم إلى أغلب الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، فإن بنياتها العميقة تقوم على الدولة البوليسية التي تتمثل في احتكار السلطات الثلاث، أو إفراغها من محتواها حتى لا تصبح في الدولة سوى سلطة واحدة، هي سلطة الضبط والتحكم، والتحكم في الاقتصاد، في غياب الشفافية وقواعد الحكامة الجيدة، وضبط المجتمع من خلال قوانين متحكم فيها، والسيطرة على الرأي العام، بواسطة وسائل إعلام عمومية موجهة، أو إعلام خاص مراقب، وقمع الشعب باستعمال كل أشكال القمع المعنوية والمادية.
النقيض المباشر للدولة البوليسية هو الدولة الحرة، أي الدولة التي يستطيع أن يعيش فيها الناس
ونجد هذا النوع الثاني من الأنظمة البوليسية في أغلب الدول العربية التي عرفت كيف تحني ظهرها لعاصفة الربيع العربي، وأغلبها استفاد من الدرس، وطوّر أساليب وطرق عمله. وهنا خطورة هذا النوع من الأنظمة البوليسية الجديدة التي باتت تستعمل "القانون"، وليس "الأمن" فقط، أداة تسلطية تمكّنها من الحفاظ على سلطتها وتسلطها بقفاز من حرير.
ليست الدولة البوليسية هي الدولة الديكتاتورية، فهي أذكى من غباء الديكتاتوريات، تحاول أن تحافظ على "الحد الأدنى" من مظاهر الديمقراطية. تسمح بهامش مراقب لتعددية حزبيةٍ متحكم فيها، وتفسح المجال لتنافس اقتصادي، تديره في الخفاء، وتترك المجال لبروز وسائل إعلام خاصة، توحي بالتنوع، لكنها تعبر عن الصوت نفسه، وتنشئ مجتمعاً مدنياً مطواعاً إلى درجة التمييع.
باختصار، الدولة البوليسية الحديثة هي دولة المظاهر بامتياز، تُبهر ولا تقنع، تقمع ولكن باستعمال قوانينها، تَعاملها مع الحرية انتقائي، أما الدين فتعرف كيف تستغله بذكاء كسلاح ذي حدين. فهي ضده لقمع خصومها وضربهم، ومعه من أجل تخدير مواطنيها.
ما نشهده اليوم في أكثر من بلد عربي هو إعادة نموذج جديد من "الدولة البوليسية"، يختلف عن نموذج الدولة البوليسية الأفقية التي جسدها بذكاء جورج أورويل في روايته "1984"، دولة "الأخ الأكبر". الدولة البوليسية التي تُعيد إنتاجها اليوم هي دولة تُحكم وتُسير عمودياً، من خلال أجهزة الضبط والتحكم التي تخترق الدولة والمجتمع والقوانين والقيم والدين والفكر. إنها مثل سرطانٍ يتمدّد في الخفاء، ويتحكم في كامل الجسد حتى يشله.