ولم ينقطع القصف المدفعي لقوات النظام لريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي منذ مطلع فبراير/شباط الماضي، موقعاً مئات القتلى والجرحى بين المدنيين، ومهجراً أكثر من 100 ألف مدني، وهو ما يعمّق أكثر المأساة الإنسانية في محافظة إدلب ومحيطها حيث يوجد نحو 4 ملايين مدني، غالبيتهم من النازحين. لكن اللافت هو عودة الطيران لتنفيذ غارات، ما يشكل منعرجاً جديداً في الموقف العسكري شمال غرب سورية، ويؤكد عمق الخلاف التركي الروسي حول تطبيق اتفاق سوتشي المبرم بين أنقرة وموسكو في 17 سبتمبر/أيلول الماضي، وتم بموجبه إنشاء منطقة آمنة في محيط إدلب بين مناطق النظام والمعارضة، بحدود تراوحت بين 15 و20 كيلومتراً، خالية من السلاح الثقيل.
وبينما أكدت وسائل الإعلام المحسوبة على النظام مشاركة طائرات روسية في الغارات، نفت وزارة الدفاع الروسية، أمس الإثنين، ما تداولته تقارير إعلامية عن شن الطيران الحربي الروسي ضربات وصفتها بـ"الدقيقة" في منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب. وأعلنت الوزارة، في بيان، أنه "لم تشن القوات الجوية الفضائية الروسية أي ضربات على الأهداف في منطقة خفض التصعيد في إدلب". وجاء نفي وزارة الدفاع الروسية بعد ساعات على تداول صحيفة "كوميرسانت" أنباء عن شن ضربات "دقيقة" في إدلب بالتنسيق مع تركيا في 9 مارس/آذار الحالي. ونقلت الصحيفة عن مصدرين عسكريين قولهما إنه تم شن الغارات في محيط مدينة جسر الشغور شمال غرب إدلب بذريعة "انتهاك الإسلاميين لنظام وقف إطلاق النار"، كما أنه تم إخطار الجانب التركي مسبقاً بتوفير الغطاء الجوي لقوات النظام السوري. وتتذرع روسيا، إلى جانب النظام، بسيطرة "هيئة تحرير الشام"، التي تشكل "جبهة النصرة" عمودها الفقري والمصنفة كتنظيم إرهابي، على المحافظة للتصعيد بشكل دائم ودفع الأوضاع إلى مزيد من التأزم. كما نقلت الصحيفة عن مصادر دبلوماسية قولها إنه "يصعب على العسكريين الروس أكثر فأكثر ردع رغبة السلطات السورية في استعادة السيطرة على إدلب، إلا أن موسكو لا تزال مستعدة لمنح مهلة لأنقرة" على حد قولها.
في موازاة ذلك، كانت صحيفة "الوطن"، التابعة للنظام، تؤكد أمس الإثنين قيام طائرات النظام ومقاتلات روسية بشن ضربات جوية مشتركة وصفتها بـ"الهائلة" على مدن وبلدات في ريف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي، زاعمة أن الجيش التركي لم يستطع تسيير دورياته في المنطقة منزوعة السلاح الثقيل الأحد الماضي. وقصفت قوات النظام، أمس الإثنين، بالمدفعية والصواريخ بلدتي الناجية وبداما التابعتين لمدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، بالتزامن مع قصف مماثل طاول بلدة التمانعة في ريف إدلب الجنوبي. وكان قتل عدد من المدنيين، بينهم ناشط إعلامي الأحد، في قصف صاروخي استهدف الأحياء السكنية في خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، والتي نزح عنها معظم سكّانها منذ بداية التصعيد من قبل قوات النظام. وأفاد نشطاء في إدلب أن قوات النظام استهدفت الأحياء السكنية في مدينة خان شيخون ليل الأحد بأكثر من 50 صاروخا أرض-أرض على نحو متتال بالإضافة إلى قنابل عنقودية ما أدى إلى مقتل أربعة مدنيين، ثلاثة منهم من عائلة واحدة، بالإضافةً إلى إصابة آخرين. وتعد مدينة سراقب من أهم المدن والبلدات في ريف إدلب الجنوبي كونها نقطة تقاطع الطريقين الدوليين اللذين يربطان مدينة حلب كبرى مدن الشمال السوري بالساحل السوري ومدينة حماة، ومنها إلى دمشق. وأكدت مصادر محلية، لـ"العربي الجديد"، أن المدينة التي تقع بالقرب من نقطة مراقبة تركية في تل الطوقان، باتت شبه منكوبة نتيجة القصف المكثف، مشيرة إلى أن هناك "محاولات نزوح"، موضحة أن "هناك نحو 70 ألف مدني في المدينة لا يجدون أماكن يمكن النزوح إليها". وقالت إن "مظاهر الحياة شبه معدومة في سراقب".
ووثق مركز المعرة الإعلامي حجم التصعيد من قبل قوات النظام منذ بداية آذار/مارس الحالي، مشيراً إلى أنه تم استهداف ريفي إدلب وحماة بـ34 غارة جوية من طائرات نظام الأسد، موضحاً أن 32 غارة استهدفت مدنا وبلدات في محافظة إدلب وغارتين استهدفتا مدينة كفرزيتا بريف حماة. وأشار المركز إلى أنه "نتج من قصف الطيران مقتل طفل عمره 3 سنوات في مدينة سراقب في ريف إدلب الجنوبي، فيما سقط 20 جريحاً في باقي المناطق"، موضحاً أن الطائرات الحربية التابعة للنظام استهدفت في مدينة سراقب مراكز حيوية، أبرزها مستشفى الحياة، ومركز الدفاع المدني، ومنظومة إسعاف سراقب، والفرن الآلي، وبنك الدم. كما أوضح المركز أن عدد القذائف والصواريخ التي استهدفت قوات النظام بها أرياف إدلب وحماة وحلب بلغت 2057 قذيفة وصاروخا منذ بداية مارس الحالي، مشيراً إلى أن مصدر القصف جاء من قرية أبو دالي ومعسكر "قبيبات أبو الهدى" الروسي في بلدة صوران. وبيّن المصدر أن القصف المدفعي والصاروخي أدى إلى مقتل 22 مدنياً، بينهم 5 أطفال وامرأتان وعنصر دفاع مدني وإعلامي، مشيراً إلى أن عدد الجرحى جراء القصف المدفعي والصاروخي وصل إلى 258، معظمهم نساء وأطفال، لافتاً إلى أن المناطق المستهدفة بالقصف بلغت 69 منطقة.
ويأتي التصعيد المتواصل من قبل قوات النظام في سياق محاولاته تقويض الاتفاق التركي الروسي، وهو ما يفتح الباب مجدداً أمام تسخين جبهات القتال في شمال غرب سورية، مع ما يستدعي ذلك من أزمات على ملايين المدنيين الذين يواجهون أوضاعاً صعبة. من جانبه، يرى القيادي في "الجيش السوري الحر" العقيد فاتح حسون أن روسيا "تتذرع كذباً بأن هناك فصائل لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار، ولم تسحب قواتها من المنطقة العازلة، وأنها تنفذ القصف كرد فعل على هجمات يتعرض لها النظام من قبل هذه الفصائل". وأضاف "لكنها (روسيا) بهذه الطريقة وغيرها تثبت أنها لا تتعامل بعقلية الدولة المتزنة التي يجب أن تنظر بالمنظور العام للاتفاق، وآليات تطبيقه وسهولة ذلك من عدمها، فهي تتعامل مع الموقف في إدلب بعقلية القائد الميداني الذي ينظر بمنظور محدد لتنفيذ مهمة محددة، وهذا خطأ جسيم يضاف لأخطائها وجرائمها بحق الشعب السوري". وأشار حسون إلى أن "تركيا هي الضامن لقوى المعارضة السورية المسلحة، وبالتالي تستطيع (روسيا) في حال وجود ما يخرق الاتفاق أن تعود إليها من خلال القنوات المفتوحة بينهما، لا أن تأخذ ادعاءات النظام ومليشياته كأنها مسلمات". وكانت مصادر في المعارضة السورية المسلحة أكدت، لـ"العربي الجديد"، أن الطرفين التركي والروسي لم يتوصلا بعد لآليات محددة لتطبيق بقية بنود اتفاق سوتشي، خصوصاً ما يتعلق باستئناف العمل على الطرق الدولية التي تربط مدينة حلب بالساحل وحماة والمقطوعة منذ عدة سنوات. ووضعت المصادر التصعيد العسكري المتواصل، غير البعيد عن الإرادة الروسية، في سياق الضغط على الجانب التركي لـ"إبداء مرونة" في العديد من الملفات التي لا تزال عالقة في شمال وشمال غرب سورية.