يبدو الغرب أحياناً وكأنه لم يعد يلتفت شرقاً، بعد أن ابتلع نقيضه، أو هكذا شُبّه له وللتاريخ، وصارت مراكزه متموقعة في قلب الشرق تتنافس لتكون على صورته (طوكيو، نيودلهي، كوالالمبور، دبي).
مع هذه الطمأنينة شرق/غرب، ما زال ثمة ما يقلق الغرب في كل مرة، إنه فزعٌ وهو يشاهد تدمير كنوز الشرق، من باغرام في أفغانستان وصولاً إلى تدمر والموصل هذا العام. بعبارات ماركس، "شبحٌ يخيّم على أوروبا" وفوق إنجازاتها التاريخية في احتواء الشرق. غير أن ضمن هذا الفزع لعبة احتواء جديدة.
كما يعيش الغرب نفسه على عُقدٍ يتداولها الإعلام والسينما والأدب ضمن دورة الاستهلاك الموسّعة، يكاد الشرق المعاصر يُطوّر عقداً جديدة، لعل أحدها هذا الذنب المتضخم شيئاً فشيئاً بتهديم الثراث البشري وعدم الحفاظ عليه.
حين أتى إدغار موران إلى تونس منذ ثلاثة أسابيع، حضر حفل تكريمه برنار ديلانوي، العمدة الشرفي لباريس وألقى كلمة.
يذكر ديلانوي في سياق حديثه عن العملية الإرهابية التي جدّت في متحف باردو في تونس العاصمة، إصرارَ الشاعر فيكتور هيغو، في منتصف القرن التاسع عشر، وهو يشغل منصب نائب في البرلمان، على عدم هدم السلطات لمبنى أثري طرحت بلدية باريس وقتها هدمه لضرورة توسعة المدينة. قال هيغو: "لسنا نُدافع عن شيء ملكنا ولا ملك بلدنا، إنه شيء يخصّ البشرية جمعاء".
كلمة ديلانوي تدل على تحوّل في الفهم الغربي لإرث الشرق، إذ ينبغي أن يصوّر لأهل الشرق كأمانة ثقيلة. أمانة تدلل الأحداث على أنهم لا يتحملونها. وإذا علمنا بأن ثقافة الغرب تتسرّب في هواء النخب الشرقية، فإن هذا الحديث يمكننا أن ننتظر ثماره قريباً في شكل سجالات ضغط نفسي ضمن ديناميكية معروفة وجاهزة للاستخدام بجلد الذات.
قد تكون عقدة الحفاظ على الأمانة واحدة من العُقد التي يرمي بها النظام العالمي، بمركزه الغربي، على الطريق لتحويل وجهات السائرين فيه، تماماً كما تم تضخيم الإحساس بالذنب في ألمانيا حول المحرقة اليهودية، حتى أنه من الصعب فصل الثقافة الألمانية المعاصرة عن عقدة الذنب هذه. لا بدّ من التساؤل هنا، هل يجري وضع "الشرق" الآن على سكة مشابهة؟
إننا اليوم نتحدّث عن شرق ممتلئ سطحه بالمشاحنات والصدامات؛ من دول عربية تطارد الإرهابيين ويطاردونها، كما تطارد المحتجين على سوء إدراتها، إلى عالم إيراني دخل لعبة جيوسياسية دولية كبرى و"شرق أقصى" اندمج في النظام العالمي حتى صار في أحد وجوهه غرباً جديداً.
بين هذا وذاك، أجيال تتقاسمها النزعات، شق يبارك الهجمة الغربية وآخر جعل من الماضي البعيد النصف السفلي من الفك المطبق على الشرق.
ثمة انحراف بصورة الشرق، انحراف وضعه الغرب على أقدامه باستشراقه، ثم ها هو يسهر على استمراره، جالباً مرة فكرة العولمة ومرة أخرى نظرية صدام الحضارات، تاركاً لـ "الشرق" أن يلعب دوراً في هذه المسرحية، فتتوالد الأحداث والأصوليات وتتصادم المذاهب والهويات، ثم تتداعى الأرض تحت الأقدام ولا بد أن تتهدم المباني والآثار وإرث البشرية وكنوزها.