منذ الساعات الأولى للصباح تدب الحركة في أزقة سوق البلاط الواقع في أدغال المدينة العتيقة بالعاصمة التونسية، فترى الزبائن من كل الشرائح الاجتماعية منتشرين بين الدكاكين الضيقة كل يبحث عن مبتغاه.
ويعد سوق البلاط المختص في تجارة الأعشاب والنباتات الطبية والزواحف من بين الأسواق القلائل في المدينة العتيقة التي لم تتأثر بالأزمة الاقتصادية بل يكاد يكون السوق الوحيد الذي استفاد من تراجع القدرة الشرائية للتونسيين الذين هجروا الصيدليات والأدوية الكيميائية التي ارتفعت أسعارها، بحثاً عن الشفاء من الأمراض أو درءاً لشرور السحر بالأعشاب التي تهبها الطبيعة، وأدرك تجار السوق أسرارها ومنافعها.
رغم أنه لا أحد يدرك حجم رقم المعاملات الذي يحققه السوق يومياً، لكن الثابت أن أحداً من قاصديه لا يخرج من بين تلك الأزقة العابقة بالروائح الطيبة المنبعثة من البخور والإكليل الجبلي والزهور المجففة دون اقتناء هذه العشبة أو تلك؛ وهو ما جعل التجار يصفون تجارة سوق البلاط بالأكثر رواجا، مقارنة ببقية الاختصاصات الموجودة بين أسوار المدينة (الأعشاب والذهب والصناعات التقليدية والملابس والعطورات وغيرها).
وينفرد أهل السوق بالدراية الواسعة في تجارة الأعشاب الطبية التي توارثت خبرتها عبر الأجيال. فالتجار يدركون بجدية الأعشاب والعقاقير التي يروجونها ويستعينون بالكتب المختصة للتداوي ككتاب "المعتمد في الأدوية المفردة" للتركماني ومؤلفات ابن سيناء وغيرها.
وتتوارث عائلات عريقة المحلات الموجودة بالسوق، وفي هذا الإطار يقول التاجر محمد الفورتي، الذي يعمل في هذا الميدان منذ 48 سنة لـ "العربي الجديد"، إنه تعلّم أصول المهنة منذ سنوات الصغر.
ويقوم الفورتي، بتحضير الأعشاب بنفسه للزبائن الذين يتوافدون على محله بغاية البحث عن علاج للأمراض المستعصية كالسرطان والروماتيزم والتهاب الكبد الفيروسي، كما يوفر لزبائنه أعشاب مضادة للسكري وضغط الدم وموانع طبيعية للحمل.
اقرأ أيضاً: تونس تتلف 100 ألف منتج مقلّد
ويؤكد أن زبائنه من كل الفئات الاجتماعية، فبينهم البسطاء والأغنياء وبينهم المتعلم المثقف وغير المتعلم. وتبقى النساء في مقدمة الوافدين يوميا على السوق، إما بحثاً عن أعشاب الشفاء أو البخور الجالب للحظ أو المبطل لمفعول السحر والحسد حسب اعتقادهم.
ويعتقد الفورتي أن وصفاته الطبيعية أنجع بكثير من الأدوية الكيمائية، فضلا عن أسعارها الزهيدة التي تمنح الشفاء لكل الناس بأقل كلفة ممكنة. حيث تتراوح أسعار حزمة الأعشاب ما بين 500 مليم و20 ديناراً أي ما بين 0.26 دولار و 10.5 دولار على أقصى تقدير سعر بالنسبة للعقاقير والزيوت.
وتعمل السوق بالحيوية نفسها على مدار السنة، فلا تكف طلبات الحريف من الجنسين صيفاً وشتاءً، ففي شهر رمضان يطلب فيه الزبون أعشاب علاج أمراض المعدة، وفي الموسم الصيفي يقصد البعض من أفراد الجالية التونسية المقيمة بالخارج السوق للتزود بأعشاب يحملونها عند العودة إلى بلد الإقامة. ويشتري السياح الأجانب غالباً "جوز الطيب" و"الزهور المجففة" لاستعمالها في طبخ بعض الأطباق الشرقية.
وعلى نحو بضعة أمتار من أحد المحلات المتخصصة في بيع الأعشاب الطبية، علّق بائع ملابس، فضل عدم ذكر اسمه، على الحركة الدؤوب في طرق السوق الضيقة بأن الأعشاب الطبية هي التجارة الوحيدة بالمدينة العتيقة التي حافظت على درجة رواجها وعدد زبائنها، مؤكدا أن الإقبال على شراء أعشاب سوق البلاط منقطع النظير، ولم يشهد تراجعا كغيره من القطاعات الأخرى خلال السنوات الأخيرة.
وشهدت تجارة الأعشاب على مستوى سوق البلاط في ما بعد الاستقلال تراجعا حسب قدماء المهنة، لكنها استعادت ازدهارها في السنوات الأخيرة، وتعددت دكاكين بيعها لتشمل قسماً من الأسواق المحاذية ويتراوح رأس مال فتح دكان بيع الأعشاب، حسب الدراسة البحثية التي أعدت حول تجارة الأعشاب الطبية في هذا السوق ما بين 500 و2000 دينار تونسي أي ما بين 520 و1100 دولار.
ويشتكي التجار الأصليون من ارتفاع عدد الدخلاء على المهنة ممن يدّعون المعرفة بأسرار النباتات، معتبرين أن رواج هذه التجارة جعلها وجهة "استثمارية" محبذة لدى العديد من سكان ومرتادي المدينة العتيقة.
وتورّد العقاقير والبخور والنباتات التي لا تنبت بالبلاد، رسمياً وبشكل غير رسمي، من المغرب والسودان ومصر والسعودية واليمن والأردن والهند وفرنسا.
اقرأ أيضاً: تونس تواجه الأدوية المغشوشة بالقوانين الصارمة