05 نوفمبر 2024
غواية الصواريخ الافتراضية الروسية
قبل أن أشرع في كتابة هذه المادة الصحافية، تساءلت في نفسي: هل للمراقب السياسي المفتقر للعلوم والخبرات العسكرية، والتجربة الميدانية، أن يخوض في غمار مسألةٍ يحتكر الخبراء العسكريون الإبحار في مياهها العميقة؟ وهل تكفي المتابعة الحثيثة، والقراءة الكثيفة، فضلاً عن الرؤية الأوسع مدى مما لدى الجنرالات المتقاعدين من معارف، عادة ما تكون أحادية الجانب، لتناول أمر بالغ الأهمية، من وزن ما كشف عنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من أسلحة حديثة، بما في ذلك الصواريخ التي لا تقهر، والطائرات التي تطير تحت الماء، وغيرهما من الصناعات الحربية المثيرة للانطباعات القوية؟
في نهاية فبراير/شباط الماضي، وعشية حملة انتخابية رئاسية نتائجها محسومة سلفاً، ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطاباً مطولاً، عرض فيه سلسلة من الابتكارات الحربية الروسية فائقة التطور التكنولوجي، وقال بنبرةٍ قتاليةٍ لا تخلو من الغطرسة والاعتداد القومي، مرفقة بشاشة تفاعلية عريضة في الخلفية؛ إن صواريخه التي لا يقدر عليها قادر تستطيع الوصول إلى أي رقعة على وجه الأرض، من القطب إلى القطب، حيث لا تنفع معها الدروع الصاروخية الأميركية، ثم أضاف بصوت من يتملكه شعور ثقيل بالظلم والإهانة قائلاً إن على الذين تجاهلوا روسيا في السابق، أو قل استصغروا شأنها، أن يصغوا إليها من الآن فصاعداً.
وأحسب أن مجتمع الاستخبارات، وخبراء وزارة الدفاع الأميركية، والمتخصصين بمثل هذه
التقنية الحربية، هم من يملكون وحدهم المصادقة من عدمها على صحة هذه الأقوال التي خاطبتهم على نحو مباشر، وأنذرتهم بحدوث تحول خطير في موازين القوة، حتى لا نقول إنها هدّدتهم في العمق، لا سيما وأن خطاب بوتين تضمّن مقاطع فيديو لهجوم محتمل على ولاية فلوريدا إذا ما وقعت الواقعة النووية، الأمر الذي حمل البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) على عجل إلى تطمين الأميركيين، من دون أن يسقط من الحساب مخاطر انتهاك موسكو معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وفي ذلك ما يشعل الضوء الأحمر لدى واشنطن بكل تأكيد.
سيمضي بعض الوقت، حتى يتبين ما إذا كانت صواريخ بوتين قد دخلت إلى مخزون الترسانة الحربية الروسية القديمة من عهد الاتحاد السوفييتي، أم أنها مجرد صواريخ خيالية تنتمي إلى العالم الافتراضي، الأمر الذي يتيح للمراقبين مهمة القيام بغربلة الحقائق من المزاعم، وتمحيص المسألة من مختلف جوانبها، للوقوف على ضفاف الحقيقة، التي يمكن استظهارها من بين ركام الادعاءات والمبالغات، والمناورات الكلامية المعمول بها في فضاء علاقات القوة بين الدول، وهو ما ستحاول هذه المقاربة القيام به بالقدر اللازم من الموضوعية.
ذلك أنه، بالاستناد إلى الأداء العسكري الروسي الراهن في سورية، مثلا، نجد أن أول دفعة صواريخ من نوع كاليبر، وكان عددها اثني عشر صاروخاً بعيد المدى، أطلقتها السفن الحربية من بحر قزوين، قد سقط اثنان منها في إيران، واثنان آخران في العراق، أما البقية فلم يعلم أحد أين وقعت في صحراء بلاد الشام الواسعة. وفي مناسبة ثانية، أرسلت موسكو حاملة الطائرات المروحية كوسنتزوف إلى شرق المتوسط لقصف أهداف في الشمال السوري، كاستعراض للقوة، إلا أن محرّكاتها العاملة على الديزل تعطلت، وعادت أدراجها عبر مضيق البسفور، تاركة خلفها سحابة أدخنة كثيفة، وصورة سيئة عن مستوى البحرية الروسية المتخلفة.
وبمقياس التكتيكات العسكرية، الجارية هذه الأيام على قدم وساق في الأجواء السورية، نجد أيضاً أن لدى الطائرات الحربية الروسية الحديثة قوة نارية هائلة، تتيح لها استخدام استراتيجية الأرض المحروقة بوحشيةٍ مفرطة، في سماء آمنةٍ تخلو من أي مضادات دفاع جوي، الأمر الذي لا يعطي انطباعاً مثيراً للإعجاب بمستوى التقنيات العسكرية المستخدمة من دولة كبرى، تحاول انتزاع اعترافٍ بها باعتبارها دولة عظمى، من خلال استعراض كل ما لديها من ممكناتٍ حربية، يجرى اختبارها في الميدان السوري، وفق تكتيكات الحد الأقصى المجرّدة من أي اعتباراتٍ إنسانية وأخلاقية.
إذا ما وضعنا الأداء العسكري الروسي في السماء السورية جنباً، وتساءلنا عن مدى فاعلية منظومة صواريخ ال س 400، وهي أحدث ما لدى موسكو من تكنولوجيا دفاع جوي، لوجدنا أنها مضادات لم يجر اختبارها في أي معركة حقيقية، شأنها شأن نظيرتها من طراز ال س 300، فيما توفرت أكثر من فرصة واحدة لإثبات جدارة هذه المنظومات، ولو على سبيل الخطأ المقصود، عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بغاراتٍ عديدةٍ في العمق السوري، تحت سمع هذه الصواريخ وبصرها، وهي صواريخ قيل إنها قادرة على كشف كل الطائرات التي تطير في سماوات الشرق الأوسط.
وبالعودة إلى الخطاب المتباهي بالابتكارات التكنولوجية للجيش الروسي، فإن السؤال المشفوع
بالشك هو؛ كيف لبلدٍ لم يستطع صناعة سيارة غير فارهة، أو كمبيوتر أو هاتف محمول، أو حتى تلفزيون ملون، مثل كوريا الجنوبية، أن يتمكن من اجتياز هذه المسافة الشاسعة من التطور العلمي، وإنتاج أسلحة ليست في إطار الممكنات التكنولوجية بعد، في وقتٍ لا تتيح فيه قدرات الاقتصاد الروسي المتخلف، ولا التأهيل التعليمي والعلمي المتدني، ناهيك عن العقوبات الغربية، تحقيق مثل هذه الطفرة الكاسرة للتوازنات القائمة بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية؟
ومع أن القلق الذي أبداه الغرب إزاء هذا التبجّح الروسي كان بالحد الأدنى، وجاء على نحوٍ لا يبعث المخاوف الزائدة عن حدّها، في هذه الآونة المثيرة للارتياب بنوايا الابن البار بحقبة الحرب الباردة الذي يستعرض قواه، وهو يغرف من معين عالم الخيال العلمي، إلا أن هذا التهويل بالقدرات الصاروخية التي لا تقهر، بما في ذلك إنتاج صاروخ نووي بمحرّكات نووية، كفيل وحده بإحياء الحرب الباردة ذاتها على نحو تدريجي، ومن ثمة إطلاق سباق تسلح جديد، لم يستطع الاتحاد السوفييتي مجاراته ودفع استحقاقاته، عندما كان الدب الروسي في عز قوته وكامل عنفوانه الامبراطوري.
إزاء ذلك كله، فإن الصور التلفزيونية الكرتونية، والمجسّمات المصنعة على الكمبيوتر، وفيديو محاكاة هجوم نووي على الولايات المتحدة، أو غير ذلك من المبالغات على الطريقة الإيرانية الهاذية، لا تصنع دولة عظمى، أو تسترد مجداً سوفييتياُ غابراً، ولا تحقق مجداً سياسياً لبلدٍ تقوده المافيا، ويسوده الفساد والاستبداد، وليس لديه سجل مشرّف في حقوق الإنسان، ويتحالف فقط مع الأشرار، من مستوى بشار الأسد وعلي خامنئي وحفيد كيم أول سينغ، الأمر الذي يدفعنا دفعاً إلى الشك العميق بوجود مثل هذه الأسلحة الصاروخية، التي إما أنها لم تجرّب، أو أنها جربت وفشلت، ناهيك عما تحتاجه من سنواتٍ طويلةٍ، كي يتم إدخالها إلى الخدمة الفعلية.
في نهاية فبراير/شباط الماضي، وعشية حملة انتخابية رئاسية نتائجها محسومة سلفاً، ألقى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خطاباً مطولاً، عرض فيه سلسلة من الابتكارات الحربية الروسية فائقة التطور التكنولوجي، وقال بنبرةٍ قتاليةٍ لا تخلو من الغطرسة والاعتداد القومي، مرفقة بشاشة تفاعلية عريضة في الخلفية؛ إن صواريخه التي لا يقدر عليها قادر تستطيع الوصول إلى أي رقعة على وجه الأرض، من القطب إلى القطب، حيث لا تنفع معها الدروع الصاروخية الأميركية، ثم أضاف بصوت من يتملكه شعور ثقيل بالظلم والإهانة قائلاً إن على الذين تجاهلوا روسيا في السابق، أو قل استصغروا شأنها، أن يصغوا إليها من الآن فصاعداً.
وأحسب أن مجتمع الاستخبارات، وخبراء وزارة الدفاع الأميركية، والمتخصصين بمثل هذه
سيمضي بعض الوقت، حتى يتبين ما إذا كانت صواريخ بوتين قد دخلت إلى مخزون الترسانة الحربية الروسية القديمة من عهد الاتحاد السوفييتي، أم أنها مجرد صواريخ خيالية تنتمي إلى العالم الافتراضي، الأمر الذي يتيح للمراقبين مهمة القيام بغربلة الحقائق من المزاعم، وتمحيص المسألة من مختلف جوانبها، للوقوف على ضفاف الحقيقة، التي يمكن استظهارها من بين ركام الادعاءات والمبالغات، والمناورات الكلامية المعمول بها في فضاء علاقات القوة بين الدول، وهو ما ستحاول هذه المقاربة القيام به بالقدر اللازم من الموضوعية.
ذلك أنه، بالاستناد إلى الأداء العسكري الروسي الراهن في سورية، مثلا، نجد أن أول دفعة صواريخ من نوع كاليبر، وكان عددها اثني عشر صاروخاً بعيد المدى، أطلقتها السفن الحربية من بحر قزوين، قد سقط اثنان منها في إيران، واثنان آخران في العراق، أما البقية فلم يعلم أحد أين وقعت في صحراء بلاد الشام الواسعة. وفي مناسبة ثانية، أرسلت موسكو حاملة الطائرات المروحية كوسنتزوف إلى شرق المتوسط لقصف أهداف في الشمال السوري، كاستعراض للقوة، إلا أن محرّكاتها العاملة على الديزل تعطلت، وعادت أدراجها عبر مضيق البسفور، تاركة خلفها سحابة أدخنة كثيفة، وصورة سيئة عن مستوى البحرية الروسية المتخلفة.
وبمقياس التكتيكات العسكرية، الجارية هذه الأيام على قدم وساق في الأجواء السورية، نجد أيضاً أن لدى الطائرات الحربية الروسية الحديثة قوة نارية هائلة، تتيح لها استخدام استراتيجية الأرض المحروقة بوحشيةٍ مفرطة، في سماء آمنةٍ تخلو من أي مضادات دفاع جوي، الأمر الذي لا يعطي انطباعاً مثيراً للإعجاب بمستوى التقنيات العسكرية المستخدمة من دولة كبرى، تحاول انتزاع اعترافٍ بها باعتبارها دولة عظمى، من خلال استعراض كل ما لديها من ممكناتٍ حربية، يجرى اختبارها في الميدان السوري، وفق تكتيكات الحد الأقصى المجرّدة من أي اعتباراتٍ إنسانية وأخلاقية.
إذا ما وضعنا الأداء العسكري الروسي في السماء السورية جنباً، وتساءلنا عن مدى فاعلية منظومة صواريخ ال س 400، وهي أحدث ما لدى موسكو من تكنولوجيا دفاع جوي، لوجدنا أنها مضادات لم يجر اختبارها في أي معركة حقيقية، شأنها شأن نظيرتها من طراز ال س 300، فيما توفرت أكثر من فرصة واحدة لإثبات جدارة هذه المنظومات، ولو على سبيل الخطأ المقصود، عندما قامت الطائرات الإسرائيلية بغاراتٍ عديدةٍ في العمق السوري، تحت سمع هذه الصواريخ وبصرها، وهي صواريخ قيل إنها قادرة على كشف كل الطائرات التي تطير في سماوات الشرق الأوسط.
وبالعودة إلى الخطاب المتباهي بالابتكارات التكنولوجية للجيش الروسي، فإن السؤال المشفوع
ومع أن القلق الذي أبداه الغرب إزاء هذا التبجّح الروسي كان بالحد الأدنى، وجاء على نحوٍ لا يبعث المخاوف الزائدة عن حدّها، في هذه الآونة المثيرة للارتياب بنوايا الابن البار بحقبة الحرب الباردة الذي يستعرض قواه، وهو يغرف من معين عالم الخيال العلمي، إلا أن هذا التهويل بالقدرات الصاروخية التي لا تقهر، بما في ذلك إنتاج صاروخ نووي بمحرّكات نووية، كفيل وحده بإحياء الحرب الباردة ذاتها على نحو تدريجي، ومن ثمة إطلاق سباق تسلح جديد، لم يستطع الاتحاد السوفييتي مجاراته ودفع استحقاقاته، عندما كان الدب الروسي في عز قوته وكامل عنفوانه الامبراطوري.
إزاء ذلك كله، فإن الصور التلفزيونية الكرتونية، والمجسّمات المصنعة على الكمبيوتر، وفيديو محاكاة هجوم نووي على الولايات المتحدة، أو غير ذلك من المبالغات على الطريقة الإيرانية الهاذية، لا تصنع دولة عظمى، أو تسترد مجداً سوفييتياُ غابراً، ولا تحقق مجداً سياسياً لبلدٍ تقوده المافيا، ويسوده الفساد والاستبداد، وليس لديه سجل مشرّف في حقوق الإنسان، ويتحالف فقط مع الأشرار، من مستوى بشار الأسد وعلي خامنئي وحفيد كيم أول سينغ، الأمر الذي يدفعنا دفعاً إلى الشك العميق بوجود مثل هذه الأسلحة الصاروخية، التي إما أنها لم تجرّب، أو أنها جربت وفشلت، ناهيك عما تحتاجه من سنواتٍ طويلةٍ، كي يتم إدخالها إلى الخدمة الفعلية.
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024