ربما كان من سوء حظّ الكاتب والممثّل الكوميدي الفرنسي، غي بيدوس (1934 - 2020)، أنْ يرحل عن عالمنا في زمن الأجواء المغلقة بسبب وباء كورونا، وإلّا كان من الممكن أن يُوصي بدفنه في الجزائر التي وُلد وقضى طفولته فيها، مثلما فعل صديقُه ومواطنُه الفنّان روجيه حنين (1925 - 2015) الذي أوصى بدفنه فيها، وقد كان له ذلك حين شُيّع جثمانه في "المقبرة الأوروبية" (مقبرة القدّيس أوجين سابقاً) ببلوغين في الجزائر العاصمة.
قضى بيدوس معظم سنوات حياته في فرنسا التي غادر إليها عام 1949، وكان حينها في السادسة عشرة من عمره، إلّا أنه عاش غريباً فيها بوصفه واحداً من "الأقدام السوداء" (الأوروبيّون المولودون في الجزائر)، وكان يشعرُ بأنّه مهاجرٌ فيها لا يحظى بالمعاملة التي تنالُها بقيّة الفرنسيّين، مثلما ردّد في غير ما حوارٍ معه؛ وهو شعورٌ ظلّ يُلازمه حتى رحيله في 28 أيار/ مايو الماضي.
لعلَّ تلك المفارقة التي طبعت حياته هي ما دفعه إلى تبنّي أسلوب الفكاهة والسخرية السوداء الذي ميّز جميع أعماله المسرحية والسينمائية، وهي مفارقَةٌ تُضاف إلى ما عاشه من عُنفٍ أُسري - خصوصاً من قِبَل والدته - في سنوات طفولته التي قضاها بين الجزائر العاصمة؛ مسقطِ رأسه، وقسنطينة وعنّابة وسوق أهراس في شرق البلاد.
هكذا، كان تعرُّضه للعنف صغيراً ثمّ شعوره بالغربة في البلد الذي يحمل جنسيته سبباً في وقوفه الدائم إلى جانب القضايا العادلة؛ فرغم أنه كانَ مِن أشدّ المُعجبين بالروائي الفرنسي، جزائري المولد، ألبير كامي (1913 - 1960)، إلّا أنه اختلف عنه؛ حين اختار الانحياز إلى المستضعفين من ضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر، والذين ظلّ يدافع عنهم طيلة حياته، بينما فضّل صاحب "الطاعون" الوقوف مع الاحتلال بعد اشتداد الثورة الجزائرية (1954 - 1962).
وفي أحد حواراته التلفزيونية، يقول إنه فضّل العدالة والنضال ضّد الجهل والظلم، وكان يُعلّق على مقولة كامي الشهيرة: "لو خُيرّتُ بين العدالة وأُمّي، لاخترتُ أُمّي".
لاحقاً، سيتبنّى بيدوس قضايا المهاجرين والأقليّات والطبقات الكادحة في فرنسا، ليجد نفسه وجهاً لوجه ضِدَّ ما يتعرّض المهاجرون إليه مِن ظُلمٍ ولا مساواةٍ من قِبل الدولة، ومِن أفكار عُنصرية مِن قبل اليمين المتطرّف، كما دافع عن "الحرّاقة" (المهاجرون غير القانونيّين) وحقّهم في البحث عن حياةٍ أفضل، وعبّر عن رفضه العنف الذي مارسته الجماعات الإرهابية في الجزائر خلال التسعينيات.
هذا الالتزام جعل كثيرين يصنّفونه ضمن تيار اليسار السياسي، غير أنَّ بيدوس لم يتردّد في انتقاد "الحزب الاشتراكي" الذي حكم فرنسا سنينَ طويلةً منذ وصول فرانسوا ميتران إلى "قصر الإليزيه" عام 1981. ويبدو مردّ ذلك إلى شعوره بالخيبة؛ وهو ما عبّر عنه بالقول: "لا يُمكن أن أشعر بخيبة أملٍ من اليمين. اليسار هو الذي يُخيّبني دائماً".
إلى جانب أعماله المسرحية التي قاربت عشرين عملاً، شارك بيدوس في قرابة ثلاثين فيلماً سينمائياً؛ من بينها: "نجوم المستقبل" (1955)، و "الأصدقاء" (1965)، و"المعزّز" (1970)، و"يمكن أن يكون الفيل مخادعاً للغاية" (1976)، و"سنذهب جميعاً إلى الجنة" (1977)، و"ضدّ النسيان" (1991)، و"الدغل" (2006)، "وماذا لو عشنا جميعاً معاً" (2012). كما ألّف عدّة كتبٍ؛ من بينها: "في انتظار القنبلة" (1980)، و"ذاكرة ما وراء البحار" (2005)، و"ساعة اسوداد الريف" (2017)، إلى جانب سيرته الذاتية "سأتذكّر كلَّ شيء: يوميات رجل كئيب" (2015).
عاد غي بيدوس عدّة مرّاتٍ إلى الجزائر متقفّياً آثار طفولته فيها؛ من بينها زيارتُه سنة 1988، حين شارك في فيلمٍ وثائقي بعنوان "الماضي المعثور عليه: غي بيدوس في الجزائر" للمخرجة الفرنسية ميراي دوما التي أنجزت عنه شريطاً آخر بعنوان "غي بيدوس بكل حرية"، والذي عُرض في الجزائر بحضوره عام 2018.
وفي 2014، كانت مشاركتُه في "معرض الجزائر الدوليّ للكتاب"، حيث قدّم كتابه "كان لديَّ حلم" (2013)، فرصةً لعرض مسرحيته "الستارة" أمام الجمهور الجزائري، والتي انتقد فيها لجوء الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة للعلاج في مستشفى فرنسي بينما بلده غنيٌّ بالنفط... وكان ذلك آخر وقوفٍ له على خشبة المسرح؛ إذ أعلن اعتزاله الفنّ في العام نفسه.