فأر عملاق في مرايا السلام
طرحت إحدى حلقات الثنائي، توم وجيري، معضلة فلسفية، تتعلق بإشكالية الحجم الحقيقي للخصم في نظر الخصم الآخر. حدث ذلك، عندما تضخم حجم الفأر جيري مرّة، وأصبح يفوق القطّ توم بثلاثة أضعاف على الأقل. عندها حدث التساؤل الإشكالي: هل تضخّم جيري فعلًا، أم تقزّم حجم توم ليصبح أضأل من الفأر؟ لم نعرف بعد إجابة ذلك الإشكال. أما في ما يعلّق بـ"فأرنا" نحن، فقد تكون الإجابة محسومة، علمًا أنه فأر مغاير لنظيره جيري، والعلاقة بيننا تفوق المماحكات؛ لتبلغ المصائر.
عمومًا، علينا، أولًا، أن نعترف، بأن لا أحد غيرنا يتحمّل مسؤولية ما حدث، فقد تركنا الحبل على غاربه أمام فأر السفينة، من دون أن نستخدم أي مبيدٍ للقوارض، وغدت المكافحة المتأخرة ضربًا من العبث، على الرغم من أننا كنا نشاهد بأم أعيننا الثقوب الأولى في جسد السفينة، فلم نُعرها بالًا، ربما لأن ما أحدثها "محض فأر"، لم نأخذه على محمل الجدّ.
كانت كل المؤشرات تدل على قرب الغرق المقبل لا محالة، وكان عدد الثقوب يتفاقم، فلم يتحرّك فينا ساكن، ربما لأننا لم نقرن بين إجهاض ثورات الربيع العربية وانهيار جدار التطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من أن أغبى محلل سياسي كان سيستخلص هذه النتيجة، منذ البداية، استنادًا إلى حتميةٍ علّمنا إياها تاريخ قرن من الصراع العربي الإسرائيلي، ومفادُها استحالة الجمع بين ديمقراطيتين في المنطقة: العربية والإسرائيلية؛ لأن الحرية العربية نقيضٌ صارمٌ لأي اعترافٍ بالكيان الصهيوني أو التطبيع معه، فكان لا بدّ من محق أي أملٍ بتحقيق الديمقراطية الفعلية لشعوب هذه المنطقة.
لم تستوقفنا حمّى الهذيان التي أيقظت فأر السفينة دفعة واحدة، عندما نجحت ثورة الياسمين في تونس، طاردة حكم بن علي، فقد أعمتنا البهجة العارمة عمّا كان يبيّت لنا الفأر الذي لم يعد يكتفي بإحداث ثقوب التيئيس من مقارعة الاحتلال، وتوسيع فجوات الفوارق المادية والطبقية والنفسية بين أصحاب النفط و"العاملين عليه" من بقية الشعوب العربية. كنّا نعتقد أن سفينة الثورة كفيلة بسحق كلّ من يحاول إعاقتها، وكان ذلك صوابًا لو لم يكن يقف خلف الفأر مخطّطون أشدّ مكرًا، يعرفون حجم اللعاب المتواري للمال والسلطة، وراء نياشين طغمٍ عسكريةٍ عربيةٍ انتفخت على موائد أسيادها من الحكام المطاحين، فجاء أبلغ مثال على مكر التخطيط، في انقلاب جنرالات العسكر بقيادة عبد الفتاح السيسي، على حكم ديمقراطيّ أفرزته ثورة "الغلابى" في أم الدنيا التي كان رهان الشعوب العربية على ما سيُحدثه نجاح ثورتها في جسد الأمة المبتلاة بالطغاة لا يضاهيه أي رهانٍ آخر؛ كان الاستبشار عظيمًا باستعادة الدور القيادي المصري الغابر، موشحّا هذه المرّة بالحرية التي ينبغي أن تكون مكوّنًا عضويًّا في جسد السفينة العربية الجديدة، غير أن الغلبة كانت للفأر الذي أهملنا وجوده، ربما لأننا لم نكن نراه أصلًا، وسط التباين الضخم بين الهيكل والثقب.
غير أن تباين الحجميْن المهول سرعان ما تقلص، بل وانعكس أيضًا، تمامًا كما حدث مع جيري، حين تعملق الفأر الذي لم نكن نشاهده أو نحسب له حسابًا من قبل، فوجدناه يقتاد أكبر دولة عربية من رأس نظامها الجديد، ويسيّرها كما يحلو له؛ إما لإجهاض ثورة ربيع آخر في ليبيا، أو لتعزيز حكمٍ مستبدّ في دمشق.
وأخيرًا، حدثت الطامة الجديدة، عندما زعمنا إن الأنباء صدمتنا بإحداث ثقبٍ أشد خطرًا وفداحة، بين الفأر الذي جلب الدبّ الصهيوني إلى بئر نفطه، باتفاقية "سلام" جديدة، لن يدفع ثمنها غير ظهر الفلسطيني المثخن بطعنات الغدر، على الرغم من أن المقدّمات كانت كلها تفيد بأن مثل هذه المعاهدات المخزية مقبلة لا محالة.
أما السؤال الفلسفي الإشكالي الذي لم يحسمه توم وجيري بشأن تباين الحجوم، فقد حسمه فأرنا العزيز الذي يعرف جيدًا أنه سيظل فأرًا، حين تكتشف الشعوب العربية حجمها الحقيقي.