منذ "الوجه الآخر"، مجموعته القصصية الأولى الصادرة في 1960، احتل فؤاد التكرلي (1927 - 2008) موقعه الإبداعي على خارطة السرد العراقي، وبعد عقدين، حين صدرت روايته الأولى "الرجع البعيد" عام 1980، التي باشر في كتابتها في باريس عام 1966، وأتمّها في بغداد عام 1977، هيّمن على مساحات واسعة من تلك الخارطة، لا سيما وأنّ الرواية التي منع الرقيب دخولها العراق أول صدورها، حرّكت الساكن في الساحة الأدبية والاجتماعية.
ولد التكرلي في زقاق يشبه أفعى تتلوّى بين شارع الكيلاني والحيدرخانة عام 1928، وعند أعتاب ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، حيث يتوافد المريدون الفقراء من بلدان إسلامية مختلفة، تفتّحت قريحته السردية المتنوعة، قصة قصيرة ونص مسرحي ورواية.
هناك حيث يمتد حبل سري بين سرّة شخوص التكرلي فيما بعد، ورتاج باب الكيلاني. وهناك حيث تختلط رائحة البخور برائحة الحناء التي تطرزها أكفّ النساء حول الرتاج في طقوس إيفاء النذور. وقريباً من هناك أيضاً يتقيأ عدنان أحد أهم شخوص "الرجع البعيد" سفالته، وهو يعاقر الخمرة بقميص نصف مفتوح.
لقد فتحت الرواية كوّة في جدار المحرّم والممنوع من تاريخ الانقلابات الدموية التي تناهبت العراق، منذ انقلاب عبد الكريم قاسم 1958، أو الزعيم "المخبّل" كما تصفه إحدى العجوزين اللتين تتبادلان الشتائم بصمت، وهما ممدّدتان على فراشيهما في الطابق العلوي الذي يشبه محجراً للأحلام وللأوهام أيضاً.
مروراً بانقلاب شباط 1963 الذي أنتج قطيعاً من شبه جيل مستهتر على شاكلة عدنان، العضو الفعّال في ميليشيا الحرس القومي، الذي لم يتورع عن اغتصاب خالته وملاحقتها بعد ذلك من ديالى الى بغداد. وانتهاء بانقلاب البعث 1968، الذي أعاد إنتاج القمع، ولكن على قياس قناصلة اليسار القادمين من صقيع الرفيق ستالين، وصين ماوتسي تونغ، وسيكار فيدل كاسترو هذه المرة.
وعلى الرغم من صدور أعماله التي تلت "الرجع البعيد"، مثل "موعد النار" 1991، و"خاتم الرمل" 1995، و"المسرات والأوجاع" 1998، و"اللاسؤال واللاجواب" 2007، ثم تلتها حديث الأشجار في العام ذاته، إلا أن التكرلي الذي تخرّج في كلية القانون عام 1949، وقضى نصف قرن في مسيرته الإبداعية، لم يتمكن من تجاوز تلك الرواية التي هيّمنت عليها اللهجة البغدادية الرشيقة، واعتبرت تشريحاً ماهراً للمجتمع العراقي، بل من الممكن القول إن "المسرّات والأوجاع" جاورتها من حيث تشابك الأحداث ومعمارية البناء الراوي.
لم يدخل التكرلي معترك المجايلة نقدياً، فقد اعتبر بداية امتداداً لعبد الملك نوري، لكنه سرعان ما أُخرج من معطفه تحت وطأة الكتابة بهاجس الواقعية المرّة.
كانت المحاكم، حيث عمل قاضياً، قد وفّرت له فرصة مجانية للغوص في مشكلات اجتماعية، ليست طافية بالضرورة على سطح مجتمع ذكوري عشائري مغلق كالمجتمع العراقي، كما وفّرت له بذات الوقت مظلة، وإن كانت مثقوبة، تحميه من بطش الأنظمة التي لا تتحمل النقد، وإن كان يلامس البنية الاجتماعية دون المساس ببنية السلطة.
اختار التكرلي الهجرة إلى تونس التي قضى فيها قرابة العقد، إلى جانب زوجته الأديبة والمترجمة التونسية رشيدة التركي، لينتقل بعدها إلى الأردن حيث توفي فيها، ودفن في مقبرة سحاب في عمّان يوم 11 شباط/ فبراير عام 2008، قبل سبع سنوات من اليوم.