فاشيات المركز وفاشيات الكومبرادور
عبدالله أمين الحلاق
يشهد العالم، في بلدان عديدة ذات ثقل ودور في صياغة توجهه وشكله ومستقبله، صعوداً قوياً للتيارات الشعبوية والعنصرية فيه، في صيغة أحزابٍ وقوى سياسية، وصل بعضها إلى سدة الحكم، بانتخابات ديمقراطية قالت فيها شعوب تلك البلدان كلمتها بحريّة. وجاءت نتائج الانتخابات الأوروبية أخيرا لتقرع جرس الإنذار، ولتحذر القوى المناهضة للعنصرية وللفاشيات (المضمرة من تلك الأخيرة والمعلَنة) من أن ما يحصل اليوم ليس محضَ موجة عابرة. على الضفة الأخرى من المتوسط، يغرق العالم العربي في الحروب والاقتتالات والموت اليومي، إلا أن الدم ليس هو الوحيد الذي يصبغ اللوحة فيه، إذ إن شعبوياتٍ وقوى عنصرية وفاشية ترفع صوتها أيضاً، في مساهمةٍ هي واحدة من "مساهمات عربية" قليلة للدخول والانخراط أخيراً في هذا العالم، ولكن بشكله الحالي.
وبالنظر إلى اللوحة كلها، أو إلى ما تيسّر منها، يمكن تعداد أسماء كثيرة، من دونالد ترامب بالدرجة الأولى وفلاديمير بوتين وماتيو سالفيني وفيكتور أوربان وماري لوبن في أوروبا، إلى بشار الأسد وعلي خامنئي وبنيامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي. ومع هؤلاء، وإن لم يكن "رئيساً" أو متربعاً فوق هرم السلطة في بلده، وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، الذي تحول إلى ظاهرة بحد ذاته، وآخرون كثيرون. إلا أن وضع كل هذه الأسماء بجانب بعضها لا يمنع التدقيق والتمحيص في تجاورها. وليس مردّ هذا التدقيق الاختلاف في الدرجة ومستوى الخطاب وآليات العنف والإلغاء للآخر فقط، بل لأن فيها ما يبدو محرّضاً على التفكير في العلاقة بين شعبويين وفاشيين غربيين وآخرين "محليين" في المشرق العربي.
سادت فترة طويلة مقولات من مفكرين ومثقفين غربيين، ترفع شعار "الخصوصية الغربية"،
وتحتفي بها، وهو ما كان يقود في نقاشات وسجالات فكرية عديدة إلى ما يمكن أن يجعل من غير الأوروبيين مجرد شعوبٍ تقيم في بيئة "يستحيل فيها النهوض أو التطور"، تبعاً للخصوصية المفترَضة. وفي المقلب الآخر، أي في العالم العربي، ساد خطاب خصوصية آخر، معادٍ لقيم الحداثة الغربية ومنجزاتها وبلغة إسلامية غالباً، وقومية عربية حيناً، ويسارية "شعبوية" أحياناً أخرى. وجاءت ثورات عام 2011 لتبشر بإمكانية دخول العرب إلى التاريخ مجدّداً، بعد أن بقوا خارجه فترات طويلة. الثورات المضادة وفشل الثورات الأولى والدخول في نفق الاقتتال والحروب الأهلية.. أجهض ذلك كله ما حلم به كثيرون في حينه. في المقابل، كان للغرب، وللإدارات الأميركية خصوصا، دور كبير في الانقضاض على احتمالات الخلاص من الأنظمة في البلدان العربية التي قامت فيها الثورات. وإذ يشهد العالم العربي اليوم نكوصاً إلى نماذج من الديكتاتوريات الدموية، تبدو أشد وحشية مما كانت عليه هي نفسها قبل عام 2011 (كما في الحالة السورية)، فإن بلداناً في أوروبا، ومعها الولايات المتحدة، تشهد صعوداً لقوى هي، في عمقها، معادية للديمقراطية أيضاً، ولمبادئ حقوق الإنسان والمساواة، ولأغلب ما ساهم في صياغة شكل الغرب وأوروبا منذ فجر الحداثة، وصولاً إلى انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم الشكل الذي استقرت عليه "القارة العجوز" بعد الحرب.
لكن، ما كان لــ "عنصرياتـ"نا" وفاشياتـ"نا" المحلية أن "تزدهر" على ما هي عليه اليوم لولا وجود بيئة مواتية وداعمة لها ولهذا "الازدهار"، وهي، هنا، ليست تلك البيئة والجموع الملتفة حول خطابات بشار الأسد وعلي خامنئي وحسن نصرالله وعبد الفتاح السيسي، أو تلك التي تنافح عن الإسلاميين الراديكاليين والدمويين المناوئين لتلك الأنظمة (وهو ما يطرح سؤال الثقافة والدين والمجتمعات الأهلية إلى جانب سؤال السياسة). ذلك أن الفاشيات والشعبويات الأوروبية تبدو اليوم قاطرةَ شعبويات العالم المتأخر وفاشياته أيضاً. وإذا كان دعاة "المجتمع المتجانس" في سورية و"التفوق الجيني" في لبنان، وغيرهم، هم من غير المستجدّين في تبني هذا الخطاب، فإن هذا الخطاب مسألة وجودية وبنيوية لديهم، لا تقوم لأنظمتهم ومليشياتهم وأحزابهم قائمة من دونه، وإذا كان بعض هؤلاء هم ممن ثابروا على التعاطي مع الآخر على أرضية التفوق في الدين أو المذهب أو القومية، فإنهم باتوا اليوم في وضع أفضل لإعلان هذا الخطاب خريطةَ طريقٍ لهم وعلى الملأ، بعد أن بات أمثالهم يحكمون عواصم كبرى في العالم. هذا يضع فكرة "النموذج" في موقعها الصحيح، فبقدر ما إن غرباً يحيي القيم التي قامت عليها حداثته ومبادئه في المساواة والديمقراطية سيكون نموذجاً داعماً للحركات المطالبة بالحرية والتحرّر في المنطقة العربية والعالم، وسيضعف أنظمة متوحشة على شاكلة نظم الأسد والسيسي و"الديمقراطية" الكاريكاتورية في لبنان، و"الديمقراطية" الشكلية في إيران في ظل نظامها المهدوي، ويساهم في وضع حد لمأساة الشعب الفلسطيني وقضيته، فإن غرباً ينقضّ
على قيمه تلك سيكون نموذجاً ورافعةً لخطابٍ مشابه له، "متحالفٍ" معه بشكل غير مباشر.
يشبه هذا "التحالف"، في مكان ما، ما دأبت الأدبيات الماركسية على تسميته "الكومبرادور"، أي الطبقة البرجوازية المحلية المتحالفة مع رأسمالية إمبريالية، كي تمكّن نفسها من القبض على السوق الداخلية والموارد. طبقة محلية وكيلة للبرجوازية الأكبر في بلدان رأسمالية. وإذا كان التحليل الماركسي يبدو ناقصاً في جانب منه، إذ لم يعد لا الاقتصاد ولا الطبقات ولا البرجوازية كافية لفهم عالم معقد كعالمنا، فإن في نموذج التبعية والاستفادة السياسية الحالية ما يمكن الركون إليه لتفسير جانبٍ من الظاهرة اليمينية والفاشية الصاعدة اليوم، بعد سبعة عقود على دحر الفاشية.
أنظمة ومليشيات إبادة جماعية، وأحزاب وتيارات وديكتاتوريون يبدون أقرب إلى المهرّجين، يستمدون استمراريتهم ووهم سيطرتهم الأبدية ودعمهم من "نماذج" غربية، تنتصر أخيرا في انتخابات ديمقراطية. وعليه، وإذا كانت الديمقراطية تبقى نوعاً ما ضمانةً لتغيير تدريجي محتمل في "النموذج" و"المركز"، فإن في ذلك ما لا يوحي بتأثر كبير وضربة نهائية لــ "الكومبرادور"، على ما برهنت تجارب أميركية سبقت ترامب، وكانت "أفضل" منه، وأيضاً في بلدان وعواصم كبرى أخرى، إذ يبقى الموضوع منوطاً بالمصلحة في دعم التغيير في المنطقة، والانتقال من الاستبداد إلى نظم أقل سوءاً، كي لا نقول ديمقراطية، ومنوطاً أيضاً بالجاذبية وبالنماذج المقترحة من "المناضلين" في منطقتنا، واجتراحهم بدائل مُقنعة، ولهذا حديث آخر.
وبالنظر إلى اللوحة كلها، أو إلى ما تيسّر منها، يمكن تعداد أسماء كثيرة، من دونالد ترامب بالدرجة الأولى وفلاديمير بوتين وماتيو سالفيني وفيكتور أوربان وماري لوبن في أوروبا، إلى بشار الأسد وعلي خامنئي وبنيامين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي. ومع هؤلاء، وإن لم يكن "رئيساً" أو متربعاً فوق هرم السلطة في بلده، وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، الذي تحول إلى ظاهرة بحد ذاته، وآخرون كثيرون. إلا أن وضع كل هذه الأسماء بجانب بعضها لا يمنع التدقيق والتمحيص في تجاورها. وليس مردّ هذا التدقيق الاختلاف في الدرجة ومستوى الخطاب وآليات العنف والإلغاء للآخر فقط، بل لأن فيها ما يبدو محرّضاً على التفكير في العلاقة بين شعبويين وفاشيين غربيين وآخرين "محليين" في المشرق العربي.
سادت فترة طويلة مقولات من مفكرين ومثقفين غربيين، ترفع شعار "الخصوصية الغربية"،
لكن، ما كان لــ "عنصرياتـ"نا" وفاشياتـ"نا" المحلية أن "تزدهر" على ما هي عليه اليوم لولا وجود بيئة مواتية وداعمة لها ولهذا "الازدهار"، وهي، هنا، ليست تلك البيئة والجموع الملتفة حول خطابات بشار الأسد وعلي خامنئي وحسن نصرالله وعبد الفتاح السيسي، أو تلك التي تنافح عن الإسلاميين الراديكاليين والدمويين المناوئين لتلك الأنظمة (وهو ما يطرح سؤال الثقافة والدين والمجتمعات الأهلية إلى جانب سؤال السياسة). ذلك أن الفاشيات والشعبويات الأوروبية تبدو اليوم قاطرةَ شعبويات العالم المتأخر وفاشياته أيضاً. وإذا كان دعاة "المجتمع المتجانس" في سورية و"التفوق الجيني" في لبنان، وغيرهم، هم من غير المستجدّين في تبني هذا الخطاب، فإن هذا الخطاب مسألة وجودية وبنيوية لديهم، لا تقوم لأنظمتهم ومليشياتهم وأحزابهم قائمة من دونه، وإذا كان بعض هؤلاء هم ممن ثابروا على التعاطي مع الآخر على أرضية التفوق في الدين أو المذهب أو القومية، فإنهم باتوا اليوم في وضع أفضل لإعلان هذا الخطاب خريطةَ طريقٍ لهم وعلى الملأ، بعد أن بات أمثالهم يحكمون عواصم كبرى في العالم. هذا يضع فكرة "النموذج" في موقعها الصحيح، فبقدر ما إن غرباً يحيي القيم التي قامت عليها حداثته ومبادئه في المساواة والديمقراطية سيكون نموذجاً داعماً للحركات المطالبة بالحرية والتحرّر في المنطقة العربية والعالم، وسيضعف أنظمة متوحشة على شاكلة نظم الأسد والسيسي و"الديمقراطية" الكاريكاتورية في لبنان، و"الديمقراطية" الشكلية في إيران في ظل نظامها المهدوي، ويساهم في وضع حد لمأساة الشعب الفلسطيني وقضيته، فإن غرباً ينقضّ
يشبه هذا "التحالف"، في مكان ما، ما دأبت الأدبيات الماركسية على تسميته "الكومبرادور"، أي الطبقة البرجوازية المحلية المتحالفة مع رأسمالية إمبريالية، كي تمكّن نفسها من القبض على السوق الداخلية والموارد. طبقة محلية وكيلة للبرجوازية الأكبر في بلدان رأسمالية. وإذا كان التحليل الماركسي يبدو ناقصاً في جانب منه، إذ لم يعد لا الاقتصاد ولا الطبقات ولا البرجوازية كافية لفهم عالم معقد كعالمنا، فإن في نموذج التبعية والاستفادة السياسية الحالية ما يمكن الركون إليه لتفسير جانبٍ من الظاهرة اليمينية والفاشية الصاعدة اليوم، بعد سبعة عقود على دحر الفاشية.
أنظمة ومليشيات إبادة جماعية، وأحزاب وتيارات وديكتاتوريون يبدون أقرب إلى المهرّجين، يستمدون استمراريتهم ووهم سيطرتهم الأبدية ودعمهم من "نماذج" غربية، تنتصر أخيرا في انتخابات ديمقراطية. وعليه، وإذا كانت الديمقراطية تبقى نوعاً ما ضمانةً لتغيير تدريجي محتمل في "النموذج" و"المركز"، فإن في ذلك ما لا يوحي بتأثر كبير وضربة نهائية لــ "الكومبرادور"، على ما برهنت تجارب أميركية سبقت ترامب، وكانت "أفضل" منه، وأيضاً في بلدان وعواصم كبرى أخرى، إذ يبقى الموضوع منوطاً بالمصلحة في دعم التغيير في المنطقة، والانتقال من الاستبداد إلى نظم أقل سوءاً، كي لا نقول ديمقراطية، ومنوطاً أيضاً بالجاذبية وبالنماذج المقترحة من "المناضلين" في منطقتنا، واجتراحهم بدائل مُقنعة، ولهذا حديث آخر.