في عبارتها الشهيرة الصادمة تقول رائدة التعليم "ماريا منتسوري"، تلك المرأة الايطالية التي ولدت منذ حوالي قرن ونصف، وبدأت حياتها كطبيبة ثم تحولت للمجال التربوي، وأسست مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة حققت من خلالها نتائج مبهرة، ثم وضعت نظرية فريدة في التعليم عرفت فيما بعد باسمها "منهج مونتيسوري" تقول:
"بينما كان الناس في منتهى الإعجاب بنجاح تلاميذي المعوقين ذهنيا، كنت أنا في منتهى الدهشة والعجب لبقاء العاديين من الأطفال في ذلك المستوى الضعيف من التعليم".
وسوف نتناول هنا نموذجا لشخصية مصابة بالتوحد، لنعرف كيف أنها حققت نجاحا ربما لا يصل إليه كثير من الطلبة العاديين في بلادنا!
هي "تيمبل غراندين"، المصابة بالتوحد، والحاصلة على درجة الدكتوراه في علم الحيوان في جامعة إلينوي، وتعمل أستاذاً لعلم الحيوان بجامعة كولورادو بأميركا، ولديها عدة اختراعات مسجلة باسمها في مجال الحيوان، أهمها أنها وضعت نظاما جديدا لمقاصب الماشية، هذا بالإضافة إلى أنها مؤلفة العديد من الكتب الأكثر مبيعا في العالم في مجال التوحد.
البداية المرة
هذه هي النهاية المضيئة لقصة "تيمبل غراندين"، ولكن للقصة بدايات مظلمة وقاسية، فالفتاة الصغيرة تأخرت في الكلام حتى سن الرابعة، رغم أنها تستوعب ما يقوله الكبار عندما يتحدثون، إلا أنها تعجز عن التعبير إلا بشيء واحد وهو الصراخ الدائم الذي كان وسيلتها الوحيدة للتواصل.
كانت تعاني من الحساسية الشديدة للأصوات فتصاب بالهياج عند سماع أي صوت مرتفع، وكذلك الحساسية المفرطة للمس، فلا تصافح أو تلمس أقرب الناس إليها، تعرضت للإهانات بسبب غرابتها وصراخها وعصبيتها وعنفها وعجزها عن التواصل مع زميلاتها أو توافقها مع البيئة المحيطة، وسخر منها الجميع في الشارع وفي المدرسة وفي الجامعة.
استغرق العبور من هذا "الجانب المظلم" إلى "الجانب المضيء" سنوات طويلة من المعاناة والمجاهدة والإحباط والإصرار، نعرضها في خمسة نقاط أساسية كانت السبب في نجاح "تيمبل غراندين"، ويمكن أن تكون كذلك بالنسبة لأي طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة:
1.الاكتشاف والعلاج المبكر: استطاعت والدة "تيمبل غراندين" أن ترصد هذه العلامات مبكرا، لم يكن رد فعلها هو قهر ابنتها أو ضربها لأنها دائمة الصراخ أو لأنها تتعامل مع الآخرين بعدوانية أو لأنها تأخرت في الكلام، ولم تصب غضبها على الفتاة لأنها جاءت على غير ما ترغب أو لأنها لن تستطيع أن تتباهى بها بين صديقاتها، ولم تعاقب الفتاة على خلل ليس لها فيه ذنب، وإنما تحملت مسؤوليتها بصلابة ورحمة. لجأت للأطباء، ذهبت بابنتها إلى حضانة متخصصة، استعانت بمتخصصين في برامج التخاطب والعلاج السلوكي.
وهنا، نريد أن نشير إلى التدني الشديد في هذا النوع من الخدمات في بعض بلادنا العربية، والمعاناة البالغة التي تعانيها أمهات هؤلاء الأطفال. ففي كثير من بلادنا لا توجد أدلة ترصد علامات إصابة الطفل أو ترصد الأماكن التي يمكن أن تساعده، فضلا عن عدم توافر هذه الخدمات للغني وللفقير أيضا.
اقرأ أيضا:هل تتقبل ابنك صاحب الإعاقة؟
2. البحث عن نقاط القوة، فكما أن قدرات "تيمبل غراندين" كانت متدنية جدا في الجانب الاجتماعي وفي الكلام واللمس، إلا أنها كانت تملك ذاكرة تصويرية فريدة، كانت "تفكر وتتعلم بالصور"، وهذه هي نقطة القوة التي مكنتها من التعلم بل ومن حل مشكلات علمية لم تستطع حلها العقول الطبيعية، خاصة في مجال التعامل مع الحيوانات، ومعرفة أنماط حياتها، ومن مقولاتها الشهيرة هنا: "العالم بحاجة إلى جميع أنواع العقول"، هناك من يفكرون بالصور، أوباللمس، أو باللغة أو بالمنطق.
3. توفير الأدوات التعليمية التي تقدم للطفل المعرفة عن طريق الحواس المفضلة لديه، فالمبدأ الأساسي لتعليم الطفل ذي الاحتياج الخاص هو"لفت انتباه واهتمام الطفل" من خلال الوسائل المناسب لطبيعته، وليس الوسائل التقليدية، ثم المحافظة على هذا الاهتمام من خلال التشجيع والتنمية.
وهذا أيضا ما تحقق للطفلة "تمبل" من خلال الأشخاص الداعمين لها.
تقديم الدعم
4. الحرية والاختيار والذاتية، وألا يكون دور المعلم أو الأب أو الأم سوى توفير البيئة والأدوات التي تدعم الاختيار الذي اختاره الطفل بنفسه. وهذا هو المقصود بكلمة "القيادة نحو التعلم"، وليس التقليد أو التلقين، أي أن المعلم يقود ويدفع الطفل ليتعلم بنفسه ما يختاره، ويكون هو ميسرًا ومساعداً لهذا وليس ملقنا للعلم.
تخيلي نفسك أمّا لفتاة مصابة بالتوحد، تسبب لك الحرج بسبب عدوانيتها وسلوكياتها الغريبة، إضافة إلى حبها للبقاء وسط الماشية والأبقار.. ماذا سيكون رد فعلك؟ هذا هو ما حدث للفتاة "تيمبل"، وقد حاول المدرسون في مدرستها الثانوية إثناءها عن هذا الاختيار الذي يبدو غريبا، ليغلقوا أمامها طريق التميز، ويختاروا هم لها ما يرونه الأنسب، ولكن الأشخاص الداعمين في حياتها ساعدوها على الحرية والاختيار والذاتية، حتى حصلت على أعلى الدرجات العلمية، وسجلت اختراعاتها الفريدة.
5. وجود الأشخاص الداعمين: كان هناك ثلاثة أشخاص داعمين في حياة "تيمبل"، وهذا العدد كاف جدا لتغيير مستقبل الإنسان نحو الأفضل، أمها التي اجتهدت في البحث عن وسائل علاجها والدأب في البحث عن الأماكن التي يمكن أن تقبل تعليمها، وخالتها التي شجعتها على حب الماشية، ومدرس العلوم الذي ساعدها على تعلم العلوم، وغرس فيها الثقة بالنفس والإحساس بأنها "مختلفة" وليست أقل من الآخرين.
وكان هؤلاء الأشخاص هم المفتاح للنقاط الخمسة، فلولاهم لن يحدث اكتشاف وعلاج مبكر، والتركيز على نقاط القوة، وبث الحرية والذاتية وتوفير الأدوات اللازمة المناسبة.
اقرأ أيضا:قال إنه تلميذ بليد فأصبح المخترع الذي أنار العالم
"بينما كان الناس في منتهى الإعجاب بنجاح تلاميذي المعوقين ذهنيا، كنت أنا في منتهى الدهشة والعجب لبقاء العاديين من الأطفال في ذلك المستوى الضعيف من التعليم".
وسوف نتناول هنا نموذجا لشخصية مصابة بالتوحد، لنعرف كيف أنها حققت نجاحا ربما لا يصل إليه كثير من الطلبة العاديين في بلادنا!
هي "تيمبل غراندين"، المصابة بالتوحد، والحاصلة على درجة الدكتوراه في علم الحيوان في جامعة إلينوي، وتعمل أستاذاً لعلم الحيوان بجامعة كولورادو بأميركا، ولديها عدة اختراعات مسجلة باسمها في مجال الحيوان، أهمها أنها وضعت نظاما جديدا لمقاصب الماشية، هذا بالإضافة إلى أنها مؤلفة العديد من الكتب الأكثر مبيعا في العالم في مجال التوحد.
البداية المرة
هذه هي النهاية المضيئة لقصة "تيمبل غراندين"، ولكن للقصة بدايات مظلمة وقاسية، فالفتاة الصغيرة تأخرت في الكلام حتى سن الرابعة، رغم أنها تستوعب ما يقوله الكبار عندما يتحدثون، إلا أنها تعجز عن التعبير إلا بشيء واحد وهو الصراخ الدائم الذي كان وسيلتها الوحيدة للتواصل.
كانت تعاني من الحساسية الشديدة للأصوات فتصاب بالهياج عند سماع أي صوت مرتفع، وكذلك الحساسية المفرطة للمس، فلا تصافح أو تلمس أقرب الناس إليها، تعرضت للإهانات بسبب غرابتها وصراخها وعصبيتها وعنفها وعجزها عن التواصل مع زميلاتها أو توافقها مع البيئة المحيطة، وسخر منها الجميع في الشارع وفي المدرسة وفي الجامعة.
استغرق العبور من هذا "الجانب المظلم" إلى "الجانب المضيء" سنوات طويلة من المعاناة والمجاهدة والإحباط والإصرار، نعرضها في خمسة نقاط أساسية كانت السبب في نجاح "تيمبل غراندين"، ويمكن أن تكون كذلك بالنسبة لأي طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة:
1.الاكتشاف والعلاج المبكر: استطاعت والدة "تيمبل غراندين" أن ترصد هذه العلامات مبكرا، لم يكن رد فعلها هو قهر ابنتها أو ضربها لأنها دائمة الصراخ أو لأنها تتعامل مع الآخرين بعدوانية أو لأنها تأخرت في الكلام، ولم تصب غضبها على الفتاة لأنها جاءت على غير ما ترغب أو لأنها لن تستطيع أن تتباهى بها بين صديقاتها، ولم تعاقب الفتاة على خلل ليس لها فيه ذنب، وإنما تحملت مسؤوليتها بصلابة ورحمة. لجأت للأطباء، ذهبت بابنتها إلى حضانة متخصصة، استعانت بمتخصصين في برامج التخاطب والعلاج السلوكي.
وهنا، نريد أن نشير إلى التدني الشديد في هذا النوع من الخدمات في بعض بلادنا العربية، والمعاناة البالغة التي تعانيها أمهات هؤلاء الأطفال. ففي كثير من بلادنا لا توجد أدلة ترصد علامات إصابة الطفل أو ترصد الأماكن التي يمكن أن تساعده، فضلا عن عدم توافر هذه الخدمات للغني وللفقير أيضا.
اقرأ أيضا:هل تتقبل ابنك صاحب الإعاقة؟
2. البحث عن نقاط القوة، فكما أن قدرات "تيمبل غراندين" كانت متدنية جدا في الجانب الاجتماعي وفي الكلام واللمس، إلا أنها كانت تملك ذاكرة تصويرية فريدة، كانت "تفكر وتتعلم بالصور"، وهذه هي نقطة القوة التي مكنتها من التعلم بل ومن حل مشكلات علمية لم تستطع حلها العقول الطبيعية، خاصة في مجال التعامل مع الحيوانات، ومعرفة أنماط حياتها، ومن مقولاتها الشهيرة هنا: "العالم بحاجة إلى جميع أنواع العقول"، هناك من يفكرون بالصور، أوباللمس، أو باللغة أو بالمنطق.
3. توفير الأدوات التعليمية التي تقدم للطفل المعرفة عن طريق الحواس المفضلة لديه، فالمبدأ الأساسي لتعليم الطفل ذي الاحتياج الخاص هو"لفت انتباه واهتمام الطفل" من خلال الوسائل المناسب لطبيعته، وليس الوسائل التقليدية، ثم المحافظة على هذا الاهتمام من خلال التشجيع والتنمية.
وهذا أيضا ما تحقق للطفلة "تمبل" من خلال الأشخاص الداعمين لها.
تقديم الدعم
4. الحرية والاختيار والذاتية، وألا يكون دور المعلم أو الأب أو الأم سوى توفير البيئة والأدوات التي تدعم الاختيار الذي اختاره الطفل بنفسه. وهذا هو المقصود بكلمة "القيادة نحو التعلم"، وليس التقليد أو التلقين، أي أن المعلم يقود ويدفع الطفل ليتعلم بنفسه ما يختاره، ويكون هو ميسرًا ومساعداً لهذا وليس ملقنا للعلم.
تخيلي نفسك أمّا لفتاة مصابة بالتوحد، تسبب لك الحرج بسبب عدوانيتها وسلوكياتها الغريبة، إضافة إلى حبها للبقاء وسط الماشية والأبقار.. ماذا سيكون رد فعلك؟ هذا هو ما حدث للفتاة "تيمبل"، وقد حاول المدرسون في مدرستها الثانوية إثناءها عن هذا الاختيار الذي يبدو غريبا، ليغلقوا أمامها طريق التميز، ويختاروا هم لها ما يرونه الأنسب، ولكن الأشخاص الداعمين في حياتها ساعدوها على الحرية والاختيار والذاتية، حتى حصلت على أعلى الدرجات العلمية، وسجلت اختراعاتها الفريدة.
5. وجود الأشخاص الداعمين: كان هناك ثلاثة أشخاص داعمين في حياة "تيمبل"، وهذا العدد كاف جدا لتغيير مستقبل الإنسان نحو الأفضل، أمها التي اجتهدت في البحث عن وسائل علاجها والدأب في البحث عن الأماكن التي يمكن أن تقبل تعليمها، وخالتها التي شجعتها على حب الماشية، ومدرس العلوم الذي ساعدها على تعلم العلوم، وغرس فيها الثقة بالنفس والإحساس بأنها "مختلفة" وليست أقل من الآخرين.
وكان هؤلاء الأشخاص هم المفتاح للنقاط الخمسة، فلولاهم لن يحدث اكتشاف وعلاج مبكر، والتركيز على نقاط القوة، وبث الحرية والذاتية وتوفير الأدوات اللازمة المناسبة.
اقرأ أيضا:قال إنه تلميذ بليد فأصبح المخترع الذي أنار العالم