على الرغم من تأكيد الساسة الفرنسيين، بمختلف مشاربهم السياسية، أن استطلاعات الرأي ليست هي من يحكُمُ فرنسا، فإنهم يُولونها أهمية قصوى، مثل رؤية أحوال الطقس قبل الخروج من البيت. ولا غرابة أن كثيراً من القضايا التي تظهر إلى العلن، هذه الأيام، تتحدث عن اهتمام الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بهذه الاستطلاعات، بل ودفع ثمنها، أحياناً، من أموال دافعي الضرائب الفرنسيين. وتقول بعض التسريبات إنه طالب باستطلاعات رأي حول خصومه السياسيين من اليسار ومن بينهم، دومينيك شتروس كاهن، الذي كان يهدده بقوة، مما دفعه إلى "التكرّم عليه" ومساعدته في الحصول على منصبه الكبير في البنك الدولي، قبل أن تُجهِز عليه عامِلةُ الفندق، في لحظة ضعف وعنف عاطفيَيْن.
من المؤكد أن الرئيس فرانسوا هولاند ليس سعيداً أبدا بفارق أربعين درجة الذي يفصله عن رئيس وزرائه امانويل فالس، والذي تؤكده استطلاعات الرأي المتتالية. وأكثر ما يَغيظُ الرئيس، هو أن كل إجراء رئاسي يصب في مصلحة رئيس لبوزراء، الذي، ولا شكّ، يُذكِّرُهُ، في نشاطه وحضوره الطاغي، بالحيوية الكبيرة التي تميز بها ساركوزي خلال سنوات عمله كوزير للداخلية ثم رئيساً للبلاد. ويدرك الرئيس أن فالس شخص طَموحٌ، وهو ليس حال رئيس الوزراء السابق جان مارك أيرولت.
وحتى تصرفات الرئيس وتعييناته الأخيرة لـ 14 سكرتير دولة، وتغيير رئاسة الحزب من دون اللجوء إلى انتخابات داخلية، لا يبدو أنها، على المدى البعيد ستَسير وفق هواه. فهذه العملية التي بدأها الرئيس لتحويل الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى حزب "اجتماعي ديمقراطي"، تسير وفق ما يشتهيه فالس الذي لا يخفي ليبراليته. وحتى لعبة التوازنات التي كانت التيارات المختلفة في الحزب الاشتراكي تحافظ عليها لمنح رؤية انسجام في الواجهة، فقد اختفت بدورها. ولا يخفى على أحد أن رئيس الحزب الاشتراكي الجديد جان - كريستوف كامباديليس، كان من أشد مؤيدي شتروس كاهن، رمز الجناح الليبرالي في الحزب. وحين قضت الفضائح الجنسية على زعيم التيار، وجدَ نفسَهُ كجنديّ ضائعٍ قرّر اللحاق بمارتين أوبري، ومؤازرتها في الانتخابات الداخلية للحزب.
أين يسار الحزب الاشتراكي؟
عل الرغم من أن التيار "الغامض" يبدو ممثلاً في بعض الوزارات، فإن وجوده الحقيقي يتمثل في النواب الثمانين الذين لا يخفون قلقهم من ليبرالية فالس، والذين يرون في مارتين أوبري، خشبة خلاص في أي غرق سياسي محتمل.
وإذا كان هولاند ينتظر النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي سيحصل عليها رئيس وزرائه حتى ترتفع شعبيته، فإنه نجح، على الأقل، في أن يُوحِّد ضد سياسته، قُطبَي جبهة اليسار، جان لوك ميلانشو وبيار لوران. كما أن إدارته لمرحلة ما بعد الانتخابات البلدية، أقنعت مختلف التشكيلات اليسارية بالخروج في أول تظاهرة كبيرة معادية لتوجهات فالس الليبرالية، يوم الأحد الماضي، ضمت حوالي 100 ألف شخص بحسب إحصاءات المنظّمين (25 ألفاً حسب الشرطة).
مارتين أوبري تنتظر ساعتها
وبينما يحاول الرئيس "العادي" هولاند، كما يحلو له أن يُسمّي نفسه، كل التعديلات السياسية الممكنة، في انتظار اختراق يجعل استطلاعات الرأي العنيدة تبتسم له، تنتظر مارتين أوبري ساعَتَها بصبر تُحسَدُ عليه. لا تورّط نفسها في تصريحات وزلات لسان قد تُحسَب عليها عندما يَحينُ وقتُها، ومن حين لآخر، تحرّك نوابها التسعين الذين يعترفون، صراحةً، بأن تأييدهم لرئيس الوزراء "الليبرالي" مشروطٌ باحترامه لرأي النواب، والذين يجاهرون بأن تصويتهم على قراراته مشروط بمراعاتها لظروف وجيْب المواطن الفرنسي المتوسط.
وفي غضون ذلك، لا تتوقف استطلاعات الرأي، التي أصبحت من لوازم الديمقراطية الغربية، والتي تُخطِئ في الكثير من الأحيان، عن ترصّد الساسة الذين يتتبعونها بشغف، حتى وإن قالوا، كاذبين، إن "فرنسا لا تُديرُها استطلاعاتُ الرأي".