العزلة التي تمسّ المسنين وغيرهم في المدن الفرنسية تتحول إلى ظاهرة، وقد بدأت منذ فترة تشغل السياسات العمومية في البلاد، خصوصاً أنّ أكثر من أربعة ملايين ونصف مليون مواطن فرنسي، يعيشون وحدهم، بعيداً عن أقاربهم.
في تقرير أجراه "المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية" في فرنسا، حول أشخاص يصفون أنفسهم بأنّهم منعزلون، نقرأ أنّ 13 في المائة منهم أجروا اتصالات ولقاءات مع المحيط، مرة واحدة كلّ شهر على الأقل، و3 في المائة، فقط، أجروا اتصالات مع العائلة والمحيط، و7 في المائة أجروا اتصالات مع العائلة فقط.
يكشف التقرير أنّ عواقب العزلة خطيرة، ومنها الإقصاء الاجتماعي، وهو ما يؤدي إلى تولّد شعور بغياب ملاحظتهم اجتماعياً، أي إنّ هؤلاء يصبحون غير مرئيين، اجتماعياً، أو هكذا يشعرون مع أنفسهم. ويعرّف المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية الأشخاص المنعزلين، بأنّهم أناسٌ لم تكن لديهم سوى أربعة اتصالات أو أقل ذات طابع خاص في الأسبوع. يضيف التقرير أنّ "العزلة الاجتماعية التي يوجد فيها الشخص، بسبب علاقات غير كافية، بشكل مستدام، سواء، في عددها أو نوعيتها، تدفع صاحبها إلى المعاناة أو حتى الخطر". وهو ما يعني أنّ العزلة تحرم صاحبها بعض المصادر الضرورية من أجل إعادة تكوين نفسه كإنسان، كذلك تحرِمُه الوصول إلى العلاج الأساسي وإلى الحياة الاجتماعية.
وفي هذا التحقيق الذي أجراه المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية، نقرأ أنّ "ستة ملايين و600 ألف شخص، من سن 16 عاماً فما فوق، يعانون من العزلة، أي يلتقون بأقل من شخص واحد في الأسبوع". وهؤلاء الذين يعيشون في عزلة، هم في الغالب، أناس تتجاوز أعمارهم سنّ الأربعين. وهم في كثير من الأحيان ليست لديهم شهادات جامعية، كذلك فإنّهم في الغالب غير ناشطين اقتصادياً. وهو ما يدفع إلى الحكم بأنّ "العزلة في العلاقات مرتبطةٌ بحالة هشاشة اقتصادية متزايدة أو عمل غير مستقر، وصحة متدهورة وفي أدنى مستوى من الرفاهية". وهو ما يعني أنّ في الحالات الأكثر صعوبة، فإنّ "حظوظ هؤلاء المنعزلين في الحصول على مساعدةٍ ما، تقلّ عن حظوظ غير المنعزلين بـ30 في المائة". وتزداد الأمور سوءاً، حين نعلم أنّ واحداً من بين كلّ ثلاثة من هؤلاء لا يملك أساساً الإمكانات المالية من أجل استقبال أصدقاء أو عائلة، وهو ما يُفاقم من وضعه، ويدفعه إلى الانزواء أكثر فأكثر.
وما يؤكد أن هؤلاء المنعزلين يعيشون على هامش المجتمع، بحسب التقرير، غيابهم عن النشاطات الرياضية والاجتماعية مثل مختلف أنواع العمل التطوعي، وهكذا فإنّ 76 في المائة من هؤلاء لا يمارسون الرياضة، مع العلم أنّها جيدة لصحتهم ومعنوياتهم ومساعدة في إخراجهم من هذه الحالة. ويبدو الفارق بين المنعزلين وغيرهم شاسعاً في مجال شبكات التواصل الاجتماعي، إذ إنّ 16 في المائة من الأشخاص الذين يعيشون في عزلة يتواصلون مرة واحدة على الأقل في الشهر على شبكات التواصل الاجتماعي، مقابل 44 في المائة من الأشخاص الذين لا يعيشون في عزلة.
والجدير بالذكر أنّ الإحصاءات المنذرة بواقع العزلة في فرنسا، ليست جديدة، فقد بدأ الانتباه إليها قبل عشر سنوات، والأرقام تؤكد أنّ الوضع مستقر لولا أنّ "الشعور بالعزلة يمسّ كلّ الشرائح الاجتماعية" حالياً. ويكشف المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في تقريره الأخير أنّ العزلة "القصوى" في العلاقات تمسّ 3 في المائة من الفرنسيين، لكنّ 10 في المائة يعترفون بأنّهم لم يلتقوا بأحد من محيطهم أو من عائلاتهم، إلا مرة واحدة، شهرياً، في الأكثر.
ويرى ستيفان ليغي، وهو خبير إحصاء وأحد المشرفين على التحقيق، أنّ من هم محرومون التبادل الاجتماعي يشعرون بالتهميش اليوم أكثر من الماضي، فالعزلة تُقاسُ، موضوعياً، بتكرار التفاعلات الاجتماعية لشخص ما، لكنّه فعلياً شعور ذاتي، لا يتماشى، بالضرورة، مع غياب التفاعل مع الآخرين، ما يفتح المجال أمام تحليل آخر، وصولاً إلى تعريف مختلف خاص بالعزلة ينبع من كلّ فرد وشعوره حيال الأمر مهما اجتمع حوله من أشخاص وتفاعلوا معه. وهو السبب الذي يجعل ثلثي الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم يُعانون من العزلة، هم في معظم الأوقات، أشخاص غير منعزلين فعلياً، لكنّهم أشخاصٌ لديهم هشاشة، مرتبطة في غالب الأحيان، بفُقدان عمل، أو انهيار علاقة عاطفية، أو تغيير لمكان السكن.
وليس سراً أنّ المسنّين يعانون عزلة أقوى من غيرهم، فإذا كان تعريف العزلة الشائع والقابل للقياس عادة، ينطبق على كلّ شخص، ابتداءً من سنّ السادسة عشرة، فما فوق، لم يتواصل مع صديق أو فرد من العائلة إلا مرة واحدة في الشهر، فإنّ ظروف العيش تختلف بحسب العمر. فهؤلاء الذين يعرفون العزلة أو تُفرض عليهم في سنّ مبكرة، يستطيعون بفضل شبكات التواصل الاجتماعي أن يتواصلوا مع الآخرين، أكثر مما يمكن المسنين، كما يكشف التقرير، وبالتالي تكون درجة عزلتهم أقلّ من المسنين.
ومن بين الجمعيات التي تحارب العزلة وتحاول تقديم العون لضحاياها، جمعيتا "موناليزا" و"إخوان الفقراء". والأخيرة تأسست عام 1946، وشعارها "إتاحة المجال أمام كلّ واحد من المسنّين الذين يعانون من العزلة والوحدة بأن يشيخوا في أفضل سكينة ممكنة والتمتع بمتع الحياة البسيطة والأساسية"، وهي تنشط بقوة في منطقة باريس الكبرى. وكمثال على عمل المتطوعين فيها، في الضاحية الباريسية تحديداً، تمكنت عام 2018 من مرافقة 2357 مسنّاً، ممن يعيشون في عزلة، وتمكينهم من الرغبة في الحياة الكريمة، أو استعادة هذه الرغبة، مع محيطهم. وإذا كان القليل فقط من المواطنين، بسبب زحمة الحياة والضغط اليومي، ينتبه لمعاناة هؤلاء، فإنّ هذه الجمعيات الخيرية، تنتبه إليهم طوال السنة، وبشكل أكبر، وأشد إلحاحاً، أثناء موجات الحرّ والبرد الشديدين.