في حلقة جديدة من مسلسل فشل المفاوضات اللانهائية حول سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان، انقضت جولة إعداد مشروع اتفاق ملزم بين الدول الثلاث حول قواعد الملء والتشغيل، مساء أمس الأول الجمعة، بفشل ذريع، إذ تعثّر وصول الوفود الفنية والقانونية الممثلة للدول والمشكّلة للجنة الصياغة، إلى أي صياغات متفق عليها، بشكل أثار ضجر وزراء الري وأعضاء الوفود، لا سيما من استمرار تهرب إثيوبيا من التزاماتها التي أبدتها علناً في القمة الأفريقية المصغرة الأخيرة.
وأكد هذا السيناريو ما نشره "العربي الجديد" في 21 أغسطس/آب الحالي، إذ أكدت مصادر مصرية مطلعة شاركت في متابعة المفاوضات أن الأعضاء الثلاثة الفنيين من الدول الثلاث رفضوا جميع الصياغات المقترحة من كل دولة، وتبين وجود خلاف شاسع بين المقترحات المصرية والشواغل السودانية والاعتبارات الإثيوبية.
وأضافت المصادر أنه حتى مساء الخميس الماضي الذي كان من المفترض أن تتوصل فيه الوفود إلى صياغات نهائية، كانت مصر والسودان يتمسكان بأن ينصّ الاتفاق صراحة على الحدين الأدنى والأقصى لكميات المياه التي سيتم حجزها من خلال تشغيل السد، وكذلك ما سيتم تمريره في أوقات الجفاف والجفاف الممتد، وفي المقابل تمسكت إثيوبيا بتأجيل حسم هذه المسائل إلى توقيع اتفاقية أخرى منفصلة للتشغيل تستند فقط إلى تفسيرها الخاص والحرفي لاتفاق المبادئ الموقّع بين الدول الثلاث في مارس/آذار 2015.
وذكرت المصادر أن إثيوبيا بعدما كانت تتهرب من تضمين الاتفاق أي أرقام خاصة بحجم الملء والتدفق، بما في ذلك ما يخص كميات المياه التي ستتدفق بشكل يومي من السد إلى السودان وحدود مراعاة السلامة الإنشائية للسدود السودانية الصغيرة قياساً بسد النهضة، وعلى رأسها سد الروصيرص، عادت ورفضت صراحة في المحطة الأخيرة من جولة التفاوض المقترح الذي عرضته الخرطوم بأن يكون التغيير في حدود 250 مليون متر مكعب، والذي تؤيدها مصر فيه. كما تراجعت إثيوبيا عن مقترحها السابق بأن يكون التغيير في حدود 300 مليون متر مكعب، وهو ما اعتبره السودانيون تحدياً مفتقراً لضمانات السلامة، لا سيما في موجات ارتفاع منسوب الفيضان وزيادة الكميات.
وأشارت المصادر إلى أن كل الخلافات التي ظهرت في الجولة الأخيرة الفاشلة كانت جذرية ومبدئية، حول مدى الإلزام وكيفية الالتزام وطبيعة التشغيل والأوضاع الخاصة بالجفاف والجفاف الممتد، مما يعتبر بمثابة السير في المربع نفسه الذي انتهت إليه الجولات السابقة الفاشلة أيضاً.
كل الخلافات التي ظهرت في الجولة الأخيرة الفاشلة كانت جذرية ومبدئية
وتم إرجاء النقاشات حول الخلافات الرقمية الأساسية بين الدول الثلاث، والتي على رأسها حجم التدفق العام في فترات الجفاف والجفاف الممتد والذي تقترح مصر أن يكون 37 مليار متر مكعب كرقم وسط بين ما تطالب به إثيوبيا وهو 32 مليارا وما كانت تطالب به مصر وهو 40 مليار متر مكعب، على أن يُترك الرقم الخاص بأوقات عدم الملء والرخاء لآلية التنسيق بين الدول الثلاث. وسبق أن اتفق وزراء المياه على ترك هذه المسألة لدراسة فنية وسيادية بالتوازي مع إعداد صياغة الاتفاق، باعتبارها المسألة الأكثر حساسية، لكن تبقى من مسؤولية لجنة الصياغة التوصل لآلية محكمة للتنسيق، إذ تصر إثيوبيا على قصرها على "الإبلاغ" في مواعيد معينة، لكن مصر والسودان يريدان أن يكون لهما دور رئيس في تحديد الكميات المتدفقة إذا طرأت ظروف مناخية غير متوقعة.
ورفضت إثيوبيا مجدداً مجرد دراسة الطلب المصري بالربط الكامل بين سد النهضة وسد الروصيرص والسد العالي لإبقاء المناسيب المائية معقولة فيها كلها، كما رفضت إثيوبيا المقترح السوداني بالربط فقط لمنع حدوث ضرر أو خطر جسيم، بينما رفضت القاهرة والخرطوم الرؤية الإثيوبية التي تصر على عدم الربط خلال فترة الملء، باعتبار أن الربط سيؤدي لعرقلة الملء الثاني للسد العام المقبل.
كما امتنعت إثيوبيا حتى الجمعة الماضي عن تقديم برنامجها للملء المستمر والدائم للسد، ورفضت أيضاً إطلاع الدولتين أو أي من المراقبين على خطتها للاستخدامات الخاصة بالمياه، سواء كانت مخصصة لإنتاج الطاقة أو الزراعة أو غيرها، وهو أمر كان أيضاً خارجاً عن صلاحيات لجنة الصياغة، الأمر الذي أدى إلى اتفاق الدول الثلاث على تغيير ما كان متفقاً عليه سلفاً من تقديم صياغة موحدة لرئيس جنوب أفريقيا باعتباره رئيس الاتحاد الأفريقي، وتقديم مذكرة من كل طرف بأسباب الفشل ومقترحات الصياغة من كل طرف.
وما زالت الخلافات واسعة على المستوى القانوني الذي تتطابق فيه الرؤى المصرية والسودانية، وتتعدد فيه محاولات إثيوبيا للتهرب، فبعد الاتفاق على أن يكون الاتفاق ملزماً، تجادل أديس أبابا في لجنة الصياغة بأن الإلزام يقتصر فقط على اللجوء الإلزامي لفض المنازعات، من دون أن ترتب أي مسؤوليات عليها حال عدم الالتزام، وهو قصد يخالف تماماً ما ترمي إليه دولتا المصب.
وتتضمن المواضيع القانونية المختلف عليها عدم التوافق الكامل على مدى إلزامية الاتفاقية التي سيتم توقيعها، وثانيها عدم التوافق على آلية فض المنازعات التي ستنشأ مستقبلاً حول تشغيل السد والملء، وثالثها رغبة إثيوبيا في تحويل الاتفاقية إلى اتفاق للمحاصصة في مياه النيل وإلغاء اتفاقية 1959 بين مصر والسودان، ورابعها وأحدثها رغبة إثيوبيا في انتزاع موافقة مصر والسودان على إقامتها مشاريع مائية أخرى على مجرى النيل الأزرق وتطبيق القواعد الاسترشادية الخاصة بسد النهضة عليها، الأمر الذي ترفضه مصر نهائياً.
وعقب فشل الجولة، قال وزير الري والموارد المائية السوداني ياسر عباس، إن التوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة يحتاج إلى إرادة سياسية، واستمرار المفاوضات بصيغتها الحالية لن يقود إلى تحقيق نتائج عملية، مقترحاً دوراً أكبر للخبراء والمراقبين في التوصل لهذه المسودة المدمجة.
وزير الري السوداني: استمرار المفاوضات بصيغتها الحالية لن يقود إلى تحقيق نتائج عملية
وذكرت كل من مصر والسودان أن الدول الثلاث توافقت على اختتام جولة المفاوضات الحالية من دون التوافق على مسودة الاتفاق المدمجة التي كان يُفترض تقديمها لرئاسة الاتحاد الأفريقي يوم الجمعة الماضي، كما سيترك الخيار لكل دولة من الدول الثلاث بمخاطبة رئاسة الاتحاد الأفريقي بشكل منفرد.
وتسعى إثيوبيا إلى اقتران اتفاق الملء والتشغيل باتفاق جديد ينظم محاصصة جديدة لمياه النيل الأزرق، وبصورة "عادلة"، على حد زعمها، تتعامل واقعياً مع استفادة مصر من كميات أكبر بكثير من حصتها المنصوص عليها، واستفادة السودان المتوقعة من كميات إضافية أيضاً في حال البدء في ملء السد النهضة وتفعيل مصفوفات التدفق في حالتي الفيضان والشح المائي. وسبق أن كشف مصدر إثيوبي لـ"العربي الجديد" مطلع الشهر الماضي أن رئيس الوزراء أبي أحمد تلقى نصائح قانونية أوصت باتباع سياسة النفس الطويل في التفاوض.