فشل مصر وسيطاً في أزمة غزة وتراجع مكانتها الإقليمية
جاء فشل جهود الوساطة المصرية في إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة، بالإضافة إلى استبعاد القاهرة من اجتماع باريس سابقاً، ليعزز مؤشرات تراجع مكانة مصر الإقليمية، وعجزها عن لعب دور خارجي، يساهم في حماية الأمن القومي ومكانة مصر الدولية، وذلك بسبب سياسات السلطة الحاكمة، التي انقلبت تماماً على حقائق الدور التاريخي لمصر، ونظرية الأمن القومي، ومصالحها العليا. وقد أثّر إصرار هذه السلطة على التواطؤ في حصار غزة، وعداء حركات المقاومة ومساندة العدوان، بطريق مباشر أو غير مباشر، أثر بشكل سلبي وغير مسبوق على مكانة مصر، وقوتها الناعمة في المنطقة. فالمبادرة المصرية، في صيغتها الأولى، جاءت في صالح العدوان الإسرائيلي، واستبعدت الطرف المقاوم، وتجاهلت حضوره في الأزمة، مما أدى إلى إجهاض المبادرة، وفشل مؤتمر الأربعة، الذي حضره وزيرا الخارجية المصري والأميركي، سامح شكري وجون كيري، وأمينا جامعة الدول العربية والأمم المتحدة، نبيل العربي وبان كي مون في القاهرة.
أما مفاوضات القاهرة، التي تلت وقف إطلاق النار المبدئي، فلم تسفر عن أية نتائج إيجابية، فاندلع القتال مجدداً، بسبب حرص إسرائيل على إبقاء الحصار، ورفض التجاوب مع طلبات المقاومة في ملفات الميناء البحري والمطار، في حين بدا الموقف المصري عاجزاً عن تقديم حلول خلاقة للطرفين المتصارعين، لأنه لا يزال يستبطن موقفاً معادياً للمقاومة، ويعتقد أن انتصارها وتحقيق مطالبها يعني خصماً من الدور المصري. والواقع أن الموقف المصري يعاني من ازدواجية صارخة، تتمثل في الحرص المبالغ فيه على الظهور بدور الوسيط الوحيد في الأزمة، من جهة، وحالة العداء والخصومة مع حركة حماس والقوى الداعمة لها في المنطقة من جهة أخرى. وهكذا، صار النظام المصري طرفاً في الأزمة، يضغط من خلال إغلاق معبر رفح، على المقاومة والمفاوض الفلسطيني، ولا يبدي أية مرونة في فتح المعبر، لتتدفق السلع والخدمات التي يحتاجها القطاع، بل إنه حتى لا يتجاوب بشكل صحي مع مطالب المقاومة في ملفات الميناء والمطار.
وقد ردت الخارجية المصرية على مؤتمر باريس بالقول إن "المبادرة المصرية هي السبيل الأوحد لحقن دماء الأبرياء من الشعب الفلسطيني"، مما يعكس حالة التصلب والجمود، على الرغم من أن هدف المؤتمر كان إدماج مطالب المقاومة، بخصوص رفع الحصار فوراً بالتزامن مع وقف إطلاق النار. ولا شك في أن فشل الوساطة المصرية، حتى الآن، يرتبط بطبيعة العقلية المنغلقة الأنانية، والمصالح الخاصة والضيقة، المرتبطة بنظام عبد الفتاح السيسي، والحرص على احتكار ملف التفاوض والتهدئة، من أجل ضمان مكانته لدى أميركا وإسرائيل. ولكن هذا الموقف قد يأتي بنتائج عكسية تماماً، فعجز مصر عن فرض شروطها على المقاومة والمفاوض الفلسطيني، سيكون له مردود سلبي على مكانة مصر في الاستراتيجية الأميركية والإسرائيلية، لعدم نجاحها في احتواء الوضع المتفاقم. فحل أزمة غزة مصلحة أميركية وإسرائيلية، من أجل التفرغ لمشكلات إقليمية أخرى، أكثر خطورة، ويعيق تفجر الوضع في غزة التعامل معها. ولذلك، تجددت الدعوات داخل إسرائيل وأميركا للبحث عن وسطاء آخرين، ومبادرات أخرى، بعيداً عن مصر.
فكيف وصلت مكانة مصر وقوتها الناعمة في الملف الفلسطيني إلى هذه الدرجة غير المسبوقة من التدهور والتراجع؟ وما هي مكامن سياسات الفشل في إدارة الأزمة الحالية من منظور الأمن القومي، وبالمقارنة بالمراحل السابقة؟
يمكن القول إن التراجع والتدهور الحالي في مكانة مصر ودورها لا يمكن استيعابه بدقة، من دون إدراك عميق لحقائق وطبيعة موقعها في الصراع العربي الإسرائيلي والانقلابات المأساوية في ممارسة وسياسات واستراتيجيات النظم والقيادات الحاكمة من أنور السادات وحسني مبارك والسيسي. فالدور المصري ينطلق من نظرية الأمن القومي ومصالح مصر العليا، وأهم ركائزها أن التهديد الحقيقي لمصر يأتي من العدو الإسرائيلي، وليس من حركات المقاومة كما يحصل الآن. ولذلك، فمساندة حركة التحرر الفلسطيني لا ترتبط فقط بالأبعاد الإنسانية والأخلاقية، أو كما ادعى السيسي، في خطابه في ذكرى 23 يوليو/تموز، أن مصر قدمت مائة ألف شهيد من أجل فلسطين، فهذه الحروب كانت من أجل مصر وفلسطين معاً. فمن منظور الجغرافيا السياسية، كانت إقامة إسرائيل بمثابة قطع للتواصل الجغرافي والبشري بين مصر ودول المشرق العربي، بل إن وجود إسرائيل نفسها في الرؤية الاستعمارية الغربية جاء كأداة وعصا غليظة، لمنع حركات التحرر والوحدة العربية والإسلامية. ولذلك، دخلت مصر في حرب 1948 لمنع نشوء كيان صهيوني معاد على حدودها الشمالية الشرقية، وتوالت المواجهات العسكرية الضارية في حروب 1956 و1967 و1973. ومن المنظور الاقتصادي، يقوم ارتباط إسرائيل بالرأسمالية العالمية على أساس استغلال موارد المنطقة المالية والبشرية، لخدمة اندماج إسرائيل في النظام الاقتصادي العالمي، ولذلك، نظرت مصر في عقد التسعينيات بتوجس وقلق كثيرين لمشروعات التعاون الاقتصادي الشرق الأوسطي، التي كانت تستهدف إدماج إسرائيل اقتصادياً في المنطقة، طرفاً يحتكر المعرفة والتكنولوجيا فيما يقدم العرب والمصريين الأيدي العاملة والمال، وفقاً لنظرية الشرق الأوسط الجديد.
ولا شك في أن بداية التدهور في دور مصر ارتبط بمعاهدة كامب ديفيد، التي مهدت لسلام مصطنع بين مصر وإسرائيل، على حساب نظرية الأمن القومي المصرية التقليدية، وأدى ذلك إلى قطيعة وانشقاق تاريخي في العلاقات العربية العربية، وعزل مصر وتجميد موقعها في جامعة الدول العربية في نهاية عصر السادات. وقد سعى نظام مبارك، في أوائل عهده، إلى إقامة نقطة توازن في العلاقة، باعتبار أن التعاون والسلام، وحتى التطبيع مع إسرائيل، لا يكون بالضرورة على حساب العلاقة مع الدول العربية وحركة التحرر الفلسطينية، على وجه الخصوص. ولكن السنوات الأخيرة في عهد مبارك شهدت تراجعاً غير مسبوق في دور مصر، بتبعيتها شبه الكاملة للسياسة الإسرائيلية الأميركية، وقبولها الضمني للاعتداء الإسرائيلي على لبنان في 2006 وغزة في 2008، في إطار مخطط توريث السلطة لنجل مبارك، وحرصه على حيازة الرضا الأميركي والإسرائيلي لهذا الأمر. وقد كانت أبرز نتائج ثورة يناير تحسين العلاقات مع الطرف الفلسطيني المقاوم، وتجميد العلاقات مع إسرائيل، خصوصاً بعد محاصرة سفارة إسرائيل في القاهرة، ثم دعم حكومة الرئيس محمد مرسي غزة والمقاومة في صفقة الأسرى، وإجهاض العدوان على غزة في 2012، مما أعاد إلى مصر رونقها وحضورها العربي المفقود.
وعلى الرغم من أن التحول في دور مصر ارتبط باتفاقية كامب ديفيد، إلا أن طبيعة نظام الحكم ونمط القيادة والنسق الإدراكي لصناع القرار يكشف عن تفاوتٍ في الممارسة والسياسات. وتكشف المقارنة بين مرحلتي نظام مبارك، وسلطة السيسي الحاكمة، عن مستوى أعمق من التدهور والانحدار في مكانة مصر ودورها، فعلى الرغم من ممالأة نظام مبارك إسرائيل وتورطه في تطبيعٍ غير مسبوق معها، إلا أنه كان حريصاً على استخدام بعض وسائل الضغط المتاحة، ومن أهمها الحراك الشعبي والمظاهرات في الشارع المصري، أوراق ضغط على أميركا وإسرائيل، بينما يقمع السيسي كل أنواع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية بكل عنف وقسوة. كما كان نظام مبارك يسمح بالجهود الإغاثية والمؤتمرات المناصرة للقضية الفلسطينية، فتشكلت اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة، التي قدمت الكثير من رموز العمل العام في مصر، وكثيراً ما نشطت لجنة الإغاثة الانسانية في نقابة الأطباء، في إعداد القوافل والمساعدات الطبية لغزة على الرغم من الحصار، وأجهض تقييد نظام السيسي العمل النقابي هذا الدور، وأدى تحالف أحزاب جبهة الإنقاذ مع أجهزة الدولة إلى السيطرة على النقابات، خصوصاً الأطباء، وإلى تغييب دورها الوطني والإغاثي، في التخفيف عن أهل غزة، وفقدت مصر مصدراً من أهم مصادر القوة الناعمة. ومن ناحية ثالثة، كان نظام مبارك أكثر قدرة على المناورة في بعض الأحيان، حيث كان في وسعه المراوغة باستخدام بعض الأدوات الدبلوماسية، مثل استدعاء السفير المصري من تل أبيب أو الدعوة إلى اجتماعات قمة عربية رمزية، لإظهار التضامن ولو شكلياً مع فلسطين. أما السلطة الانقلابية فليس لديها هذه المرونة، بل هناك جمود وتصلب في مساندة إسرائيل وعداء للمقاومة جعلها تمنع قوافل الإغاثة الانسانية التي يعدها النشطاء، ولم يجر حتى مجرد التلويح بسحب السفير المصري، كما كان يحصل سابقاً، بل استمرت رحلات مصر للطيران إلى مطار بن جوريون بالوتيرة نفسها، على الرغم من تجميد شركات طيران عالمية عديدة رحلاتها.
لقاء جمع عمر سليمان وفاعليات فلسطينية بينها القيادي في حماس محمود الزهار (أغسطس/2005/أ.ف.ب) |
وكان نظام مبارك يحتفظ بشعرة معاوية مع حركات المقاومة، ويحرص على استمرار التواصل مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، من خلال قناة المخابرات المصرية، بل كان يتم استضافتهم في القاهرة في حوارات المصالحة الوطنية والتهدئة، كما كانت الأجهزة الأمنية تغض الطرف عن بعض أنشطة التهريب واقتصاد الأنفاق، مما يحقق استفادة متبادلة لغزة وأهل سيناء على الحدود. أما نظام السيسي فيحاصر القطاع وغزة، بشكل أكثر قسوة، حيث يغلق معبر رفح بشكل شبه دائم، ويهدم الأنفاق، بهدف خنق القطاع وإضعاف سلطة حماس. وفي المقابل، تحظى السلطة المصرية بتأييد واسع النطاق من إسرائيل، واللوبي الإسرائيلي في واشنطن، والذي تدخل أكثر من مرة، من أجل استمرار المعونة العسكرية للجيش المصري بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013.
ولا شك في أن فشل جهود الوساطة، واستبعاد مصر من المشاركة في مؤتمر باريس، لم يمثلا المظهر الوحيد لانهيار مكانة مصر، وتراجع قوتها الناعمة ودورها الإقليمي، فالرأي العام العربي، وحتى الدولي، ينظر بغضب وسخط إلى السياسة المصرية، فالمظاهرات التي تعم أنحاء مختلفة من دول العالم تنتقد الحصار المصري على غزة، وعداء السلطة المصرية لحركات المقاومة بشكل صريح. ومصر السيسي أصبحت موضع اتهام صريح بالتواطؤ، وجاء في استطلاع رأي الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، أجراه مركز أوراد في 23 يوليو/تموز 2014 أن نحو 93% من الفلسطينيين يرون دور الحكومة المصرية سلبياً في الأزمة، وهذه نسبة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات المصرية الفلسطينية، وهي النسبة نفسها التي حصلت عليها الولايات المتحدة في الاستطلاع نفسه، أي أن نظرة الفلسطينيين إلى دور مصر في الأزمة، هي نظرتهم نفسها إلى أميركا الحليف الرئيسي لإسرائيل. ومن زاوية براغماتية بحتة، لا تعيها حتى قيادات السلطة الحاكمة، فإن الفشل في إدارة الأزمة الحالية يؤثر بشكل خطير على دور مصر وسيطاً وعامل تهدئة واستقرار في الاستراتيجية الأميركية.
فعلى الرغم من كثافة الاتصالات الدولية في بداية الأزمة، ورعاية مصر المفاوضات، إلا أن تصلب الموقف المصري، وفقدانه مقومات التأثير السياسي والأخلاقي على المقاومة، يسحب البساط تدريجياً من الدبلوماسية المصرية. فمصر السيسي أخذت تخسر دورها وسيطاً غير منحاز، وعامل استقرار وضابط لتهدئة الأوضاع في الملف الفلسطيني، وهي بذلك تخسر، أيضاً، مكانتها في الاستراتيجية الأميركية. فالدور المصري كان مفيداً في الاستراتيجية الأميركية تجاه المنطقة العربية والإسلامية، كما صاغها كيسنجر في السبعينيات، من أجل ثلاثة أهداف، هي الوقوف في وجه التمدد السوفييتي في المنطقة، وتوفير قاعدة للتحرك الأميركي في الخليج، وأخيراً دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ووجود القوات الأميركية مباشرة في الخليج، لم يبق من أدوار يمكن أن تقوم بها مصر سوى الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولكن عداء السيسي للمقاومة، وسياسته الرامية إلى تفكيك وحصار حماس وغزة جعلته طرفاً منحازاً، يتبنى الأجندة الإسرائيلية نفسها في المعركة. ونظراً لأنه لا يستطيع أن ينفك عن حالة العداء والكراهية لحماس، فإنه يتقمص شخصية ودور الطرف الإسرائيلي، بمعنى أنه يصبح طرفاً معادياً وليس وسيطاً، وبذلك يفقد نقطة تميزه ودوره في الاستراتيجية الأميركية. ويرى ستيفن كوك، في مقالة له في مجلة "فورين بوليسي"، أن مصر فقدت هذه الوظائف، وهو ما يعكس شعوراً بعدم الرضا الأميركي تجاه عجز السيسي عن القيام بالدور الوظيفي المنصوص عليه في بنية العلاقات المصرية الأميركية. والواقع أن توزيع الأدوار في الاستراتيجية الأميركية يقتضي أن تقوم مصر بدور الوسيط، حين تتصاعد الأزمة، وليس أن تكون طرفاً منحازاً، فما أكثر الاطراف المنحازة، وما أكثر الموارد، التي يمتلكونها، أما أدوار الوسيط والسمسار والمهدئ وإطفائي الحرائق فقد كانت مصر تؤديها بمرونة وبراغماتية فترة طويلة. وانحيازات السلطة الحاكمة في مصر وتدهور علاقاتها مع المقاومة الفلسطينية يجعلها تستمر في فقدان قيمتها في الاستراتيجية الأميركية، إلى أن تظهر قيادة جديدة، أو تقوم القيادة الحالية بإعادة تعديل وظيفتها ودورها في المنطقة، وإلا فإن هناك احتمالات كبيرة في أن تحل محلها أطراف إقليمية أخرى، تمكّنها من ملء الفراغ، سواء من الاتحاد الأوروبي أو تركيا وقطر خصوصاً.
والخلاصة أن نظام السيسي يعرّض الأمن القومي، ودور مصر الإقليمي، إلى تراجع وتدهور غير مسبوق، في ذلك التحالف والتواطؤ مع العدو التاريخي لمصر، الذي يمده بمزيد من مصادر القوة، لتهديد أمن مصر ودورها، وسياساته تحول الحلفاء من حركات المقاومة، الذين يساهمون في حماية وضمان أمن الحدود المصرية، إلى أعداء محتملين.