لم يعتد العالم في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) على "مثالية القانون"، سوى في بلدان محددة، كالسويد والنرويج وفنلندا وإيسلندا واليابان مثلاً. لكن الأحداث الأخيرة في كوريا الجنوبية، أظهرت أن الشعب هناك استفاد من النهضة الاقتصادية ومن معاناة سنوات سيئة مرت عليه سياسياً وأمنياً، لترسيخ دور "مثالية القانون". في الشهر الحالي، تغيّرت أحوال رئيسة كوريا الجنوبية، بارك غيون ـ هي، التي وقعت أسيرة فضيحة تقف خلفها صديقة لها، شوي شون ـ سيل، التي استغلت علاقتها مع الرئيسة للتأثير على أحكامها وللمنفعة الخاصة. حصل ذلك عبر إجبار الشركات الكبرى على التبرّع لمؤسساتها، كشركة "سامسونغ"، التي تمّت مداهمة مكاتبها، بعد اتهامها بالتبرّع بمبلغ 15 مليون دولار، لمؤسسات شوي شون، فضلاً عن دفع أكثر من 3 ملايين دولار نفقات التدريب على الفروسية الذي كانت تخضع له ابنة شوي شون في ألمانيا.
بعد تلك الفضيحة، انفجر الوضع في البلاد، وملأت التظاهرات شوارع المدن الرئيسية، حتى أن أكثر من مليون شخص شارك في تظاهرة داعية لاستقالة الرئيسة يوم السبت، علماً أن عدد سكان البلاد يبلغ نحو 51 مليون نسمة. فضلاً عن تراجع أسهم الشركات المعنية، أي سامسونغ وهيونداي. بعد تلك التظاهرات، أدركت الرئيسة "عمق خطورة الوضع" وفق المتحدث باسمها. وأصدرت اعتذارات علنية عدة، كما أجرت تعديلات في المناصب الكبيرة ووافقت على التخلي عن بعض سلطاتها التنفيذية الواسعة. لكن الدعوات الشعبية إلى استقالتها تواصلت. وعلى الرغم من إقرارها بأنها مسؤولة عن الفضيحة، إلا أن شعبيتها تراجعت بشكل مخيف، وبلغت 5 في المائة فقط.
أدى كل ذلك إلى تحرّك النيابة العامة في سيول، وطلبت "الاستماع لإفادة الرئيسة". أمر إن حصل، فستكون أول جلسة استماع تجريها النيابة العامة مع رئيس دولة في الحكم في كوريا الجنوبية. وأعلنت بارك أنها مستعدة للرد "بصدق" على أسئلة المدعين من دون الاختباء خلف الحصانة الرئاسية. النقلة النوعية في السلوكيات الاجتماعية التي أفضت إلى تكريس سيادة القانون في كوريا الجنوبية، تعود جذورها إلى التحوّلات التي رافقت مرحلة والد الرئيسة الحالية، بارك شونغ ـ هي، الذي وصل إلى سدة الرئاسة في سيول، عقب انقلاب دموي، في 16 مايو/أيار 1961، بعد سلسلة من الإخفاقات الاقتصادية والسياسية، التي واكبت مرحلة انقسام شبه الجزيرة الكورية، إلى كوريا جنوبية وكوريا شمالية، بعد حربهما الدامية (1950 ـ 1953).
وعلى الرغم من الدور السلبي لبارك كرجل عسكري حكم بقبضة حديدية، مطلقاً يد الاستخبارات الداخلية، إلا أنه يُعتبر مؤسس "النمر الكوري" اقتصادياً، الذي فرض نفسه بين عملاقين: الرأسمالي الياباني، والشيوعي الصيني. لكن مقتل بارك، أواخر عام 1979، بسبب خلافات داخلية في الأوساط الأمنية، أدخلت البلاد في عقد الثمانينات الذي تراوح بين الانقلابات العسكرية والتعديلات الدستورية والانتخابات الصُورية، قبل أن ينجح الرئيس روه تاي ـ وو (1988 ـ 1993)، في بناء "الجمهورية السادسة" الكورية الجنوبية، عبر تحقيق إصلاحات سياسية شاملة، بدءاً من الانتخابات النزيهة وصولاً إلى تطوير الأنظمة الاقتصادية.
دفع كل ذلك بكوريا الجنوبية إلى الاستقرار السياسي، الذي سمح لها بتطوير أنظمتها الداخلية، ما أفضى إلى إبعاد الجيش والأمن عن السلطة، ووصول رئيسين ينتميان إلى اليسار للسلطة، كيم داي ـ جونغ (1998 ـ 2003)، وروه مو ـ هيون (2003 ـ 2008)، الذي تورّط في قضايا رشوة، لم يتحمّلها، فانتحر في عام 2009. ومسألة "مثالية القانون" أو "مثالية التفكير الاجتماعي"، باتت عنصراً أساسياً في الحياة الكورية الجنوبية، وتجلّت تحديداً في قضية غرق عبّارة ركاب في 16 أبريل/نيسان 2014، في حادث خلف أكثر من 300 قتيل ومفقود. على أثر الحادثة، استقال رئيس الوزراء شونغ هونغ ــ وون، من منصبه، قائلاً: "أقدم اعتذاري لأنني لم أتمكن من منع وقوع هذا الحادث، ولم أتمكن من التعامل بالشكل الصحيح مع نتائجه". من سخرية القدر أن رئيسة كوريا الجنوبية، بارك غيون ـ هي، تخضع لقوانين، في وقتٍ كان والدها يضع قانونه الخاص أيام حكمه العسكري.