24 اغسطس 2017
فظيع جهل ما يجري وأفظع منه أن تدري
الفكر ليس في ذاته آداة لتحويل الواقع الاجتماعي، بل يصير حين ينصهر في النضال العملي، أي حين يدخل وعي الجمهور وينقلب في ممارساته، الواعية لمسارها، بمعنى أن على الوعي أن يؤسس لفعل وممارسة حتى يُحدث حركة التاريخ المشتهاة. ولكن ماذا إن كان الوعي حاضراً، ولكنه محصور في الفكر دون أن يجد له منفذاً بالفعل والممارسة!
ولإيصال الفكرة، سأبدأ قولي بتجربة خضتها شخصياً، ووقفت معها موقف العاجز غير القادر على الفعل ولا المواجهة. فأثناء عملي في إحدى مؤسسات التمويل الأجنبية المتواجدة في الضفة الغربية، والتي تقوم على تدريب الشباب لخلق المزيد من فرص العمل، فتقدم مشاريعها في كل من الضفة وغزة. لا يعنيها جودة التدريب، أو السياق العام الذي يجري فيه التدريب وأثره على مخرجات التدريب، بقدر سعيها لأن ترى نسبة رقمية تدلل على الزيادة في التوظيف، وبذلك تكون التدريبات قد آتت أكلها، وبالتالي استمرار تدفق التمويل.
ما يهمنا بعد إجراء التقييم لأحد التدريبات المقدمة كانت نسبة التوظيف في الضفة معقولة، أما نسبة التوظيف في غزة فكانت تساوي تحديدا (لا أحد) أي نسبة التوظيف 0%، وحتى يستمر التمويل وتدفقه تم تغيير النسبة إلى أنه تم التوظيف بالكامل من خلال توقيع اتفاقات للعمل مستقبلا بتوفير فرص تشغيل بناء على "احتياجات السوق". أي أنه فعليا لم يتم التشغيل ولكن جرت عملية تلاعب لتغيير نسبة من لا يعملون، الى موظفين حتى وإن لم يكن فعليا هذا ما يحدث على أرض الواقع. أوضحت أنه بالإمكان تفسير عدم التوظيف بتوضيح الظروف المحيطة والمعيقات التي يعيشها سكان القطاع، إلا أنه تم إسكاتي، بالإشارة إلى أن المانح ما يهمه الرقم النهائي الموجود في التقرير!
من هذه الحادثة نعي جيداً عدداً من النقاط: أن خطاب منظمات التمويل يقوم على تطوير القدرات دون الاهتمام بمسألة السبل وهي الأهم، فالقدرات المعطلة لا يمكن الاستفادة منها نظراً لأن السياق الذي تعمل فيه يقيدها، هذا يحيل بديهياً التركيز على فهم السياق وتفكيكه وتذليله جذرياً، إلا أن ما يحدث لا يصب في هدف التنمية والتمكين، بقدر ما يجعل من الإشكالية تنحصر في قدراتك كشخص، فبحسب ما يقول دين عن مفهوم القدرات الذي يروج له تسن فإنه يبقى صامتا حيال المعيقات النظامية لحرية الإنسان لاسيما المرتبطة بالمنطق الرأسمالي.
وفي حالتنا مفهوم تطوير القدرات، وإعادة التأهيل، والتمكين هي مفاهيم صامتة حيال المعيقات النظامية لحرية الفلسطيني حيث يقيدها الاحتلال بالدرجة الأولى، فيغدو الحديث عن القدرات حديثا لا طائل منه ولا غاية له. ما فائدة تنمية وتطوير القدرات طالما هناك حرمان من الوصول إلى الموارد الطبيعية الوطنية.
ثانيا: هناك عمليات متكررة من التزييف للواقع تتم يومياً، وتجميل متعمد واع حتى من الأطراف المحلية لتكريس الوضع القائم، والقبول به، لاستمرار تدفق التمويل، حتى وإن تم بالتزييف وإبعاد المشكلة عن جذرها الحقيقي المتمثل في البنية الاستعمارية الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي.
من الضروري أن نعي أن خطاب القدرة يختنق أمام الظروف السياسية، في ظل المعيقات التي يفرضها الاحتلال فغالباً ما يتم طرح هذه التدريبات في إطار القطيعة مع الواقع وعندما يتم وضعها في حيز التنفيذ فإنها تتعطل أمام المعرقلات التي يفرضها الاحتلال، كما أنها لا توفر حلولا حقيقية لإخراج المواطن خصوصا الغزي، من أزمته بقدر ما توفر مسكنات مؤقتة، دون معالجة جذور المشاكل الأساسية.
وفي المقابل يمكن الحديث عن فسحة معينة للسكان في الضفة تؤسسها صورة وهمية قابلة للمحو في أي لحظة. ومع إمكان العمل في إسرائيل والمستوطنات ترتفع نسبة التشغيل والتي لو أُسقطت من الحساب لما ابتعدت كثيراً نسب البطالة في الضفة عن تلك الموجودة في القطاع كما توضح وكالة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية- UNCTAD.
وأصدرت الاونكتاد تقريرا يرصد التطورات في الاقتصاد الفلسطيني، وأشارت في بداية التقرير الى دور الاحتلال الإسرائيلي في الركود الاقتصادي واللاتنمية، وقمع الإمكانيات. وأكد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (2015) على أن غزة ستكون مكاناً غير قابل للعيش في عام 2020. مما يعني أن هناك حاجة ملحة لجهود ضخمة لتكثيف جهود إعادة الإعمار في قطاعات مثل الصحة، والتعليم والطاقة، والمياه والصرف الصحي، إلا أن الحالة في تفاقم متزايد منذ ذلك الحين، ووفقا للبنك الدولي فالأداء الاقتصادي في قطاع غزة كان الأسوأ في العالم على مدى العقدين الماضيين، مع استمرار حالة العقاب الجماعي لأكثر من 10 سنوات مفروضة برياً وبحرياً وجوياً.
هذا حال دون الوصول إلى 35% من الأراضي الزراعية، 85% من مياه الصيد في غزة، مع انخفاض في الصادرات بلغ 65% في أوائل عام 2017 مقارنة بما كان عليه الحال عام 2007. وحوالي نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، على الرغم من أن 80% يحصلون على المساعدة الغذائية وغيرها من أشكال التحويلات الاجتماعية، عدا عن النقص المستمر في الطاقة الكهربائية، والذي يترتب عليه إعاقة في جميع الأنشطة الاقتصادية ويؤدي إلى إعاقة تقديم الخدمات، كتمديد المياه ومعالجة مياه المجاري والخدمات الصحية، فانخفض الحصول على إمدادات من المياه المعالجة من 98% من السكان عام 2000 إلى 10% عام 2014، ويتم تصريف مياه المجاري في البحر، ولم يتم صرف سوى 51% من مبلغ 3.5 بلايين دولار من الأموال التي تم التعهد بها في مؤتمر القاهرة المعني بإعادة الإعمار في القطاع المنعقد عام 2014، ولم تتحقق الاستجابة لـ 48% من مجموع احتياجات الانتعاش، ومن أشد العواقب التي تترتب على الاحتلال الاسرائيلي ثبات معدل البطالة والذي تعتبر من أعلى المعدلات في العالم، فبلغت النسبة في قطاع غزة 42%، مع التنبيه إلى أن هذا الرقم لا يعكس حجم المشكلة الحقيقية وما يصحب ذلك من معاناة اقتصادية، وتعطيل للمورد البشري وقدراته، هذا عدا عن سوء الظروف التي يعمل بها الفلسطيني حيث 78% من العاملين في القطاع الخاص في غزة يعملون بظروف عمل غير مواتية حيث يتلقون أجراً أقل من الحد القانوني. وبلغت نسبة الفقر 39%.
ويشير التقرير إلى أن الصدمة الاقتصادية وعدم تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع أدت إلى سلب الاستدامة المالية المقدمة من المانحين. نظرا لتقييد النمو الاقتصادي بممارسات الاحتلال التي تحد من الأنشطة الإنتاجية والتجارية، وهذا ما يشير له التقرير صراحة، ويؤكد التقرير على أن التنمية الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية تتطلب تفكيك مصفوفة الضوابط التي تفرضها بنية الاحتلال الإسرائيلي والتي أدت إلى خنق الاقتصاد وسحق القاعدة الإنتاجية والإضرار بالمناخ الاستثماري. فالتنمية فلسطينيا على وجه العموم وفي غزة تدور في حلقة مفرغة، يدور معها تراجع المعونة وازدياد الاستياء السياسي، والاحتكام المتزايد للحرب، وتحقيق تنمية أو إنجاز ملموس على الأرض بالنسبة لغزة مشروط برفع الحصار.
الفكرة محل التركيز أن الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً يختنق، ويُجرد من كامل قدرته على خلق فرص العمل، بسبب بنية الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، ولا بد من إعادة المسألة إلى جذورها، وعياً وممارسة.
ولإيصال الفكرة، سأبدأ قولي بتجربة خضتها شخصياً، ووقفت معها موقف العاجز غير القادر على الفعل ولا المواجهة. فأثناء عملي في إحدى مؤسسات التمويل الأجنبية المتواجدة في الضفة الغربية، والتي تقوم على تدريب الشباب لخلق المزيد من فرص العمل، فتقدم مشاريعها في كل من الضفة وغزة. لا يعنيها جودة التدريب، أو السياق العام الذي يجري فيه التدريب وأثره على مخرجات التدريب، بقدر سعيها لأن ترى نسبة رقمية تدلل على الزيادة في التوظيف، وبذلك تكون التدريبات قد آتت أكلها، وبالتالي استمرار تدفق التمويل.
ما يهمنا بعد إجراء التقييم لأحد التدريبات المقدمة كانت نسبة التوظيف في الضفة معقولة، أما نسبة التوظيف في غزة فكانت تساوي تحديدا (لا أحد) أي نسبة التوظيف 0%، وحتى يستمر التمويل وتدفقه تم تغيير النسبة إلى أنه تم التوظيف بالكامل من خلال توقيع اتفاقات للعمل مستقبلا بتوفير فرص تشغيل بناء على "احتياجات السوق". أي أنه فعليا لم يتم التشغيل ولكن جرت عملية تلاعب لتغيير نسبة من لا يعملون، الى موظفين حتى وإن لم يكن فعليا هذا ما يحدث على أرض الواقع. أوضحت أنه بالإمكان تفسير عدم التوظيف بتوضيح الظروف المحيطة والمعيقات التي يعيشها سكان القطاع، إلا أنه تم إسكاتي، بالإشارة إلى أن المانح ما يهمه الرقم النهائي الموجود في التقرير!
من هذه الحادثة نعي جيداً عدداً من النقاط: أن خطاب منظمات التمويل يقوم على تطوير القدرات دون الاهتمام بمسألة السبل وهي الأهم، فالقدرات المعطلة لا يمكن الاستفادة منها نظراً لأن السياق الذي تعمل فيه يقيدها، هذا يحيل بديهياً التركيز على فهم السياق وتفكيكه وتذليله جذرياً، إلا أن ما يحدث لا يصب في هدف التنمية والتمكين، بقدر ما يجعل من الإشكالية تنحصر في قدراتك كشخص، فبحسب ما يقول دين عن مفهوم القدرات الذي يروج له تسن فإنه يبقى صامتا حيال المعيقات النظامية لحرية الإنسان لاسيما المرتبطة بالمنطق الرأسمالي.
وفي حالتنا مفهوم تطوير القدرات، وإعادة التأهيل، والتمكين هي مفاهيم صامتة حيال المعيقات النظامية لحرية الفلسطيني حيث يقيدها الاحتلال بالدرجة الأولى، فيغدو الحديث عن القدرات حديثا لا طائل منه ولا غاية له. ما فائدة تنمية وتطوير القدرات طالما هناك حرمان من الوصول إلى الموارد الطبيعية الوطنية.
ثانيا: هناك عمليات متكررة من التزييف للواقع تتم يومياً، وتجميل متعمد واع حتى من الأطراف المحلية لتكريس الوضع القائم، والقبول به، لاستمرار تدفق التمويل، حتى وإن تم بالتزييف وإبعاد المشكلة عن جذرها الحقيقي المتمثل في البنية الاستعمارية الاستيطانية للاحتلال الإسرائيلي.
من الضروري أن نعي أن خطاب القدرة يختنق أمام الظروف السياسية، في ظل المعيقات التي يفرضها الاحتلال فغالباً ما يتم طرح هذه التدريبات في إطار القطيعة مع الواقع وعندما يتم وضعها في حيز التنفيذ فإنها تتعطل أمام المعرقلات التي يفرضها الاحتلال، كما أنها لا توفر حلولا حقيقية لإخراج المواطن خصوصا الغزي، من أزمته بقدر ما توفر مسكنات مؤقتة، دون معالجة جذور المشاكل الأساسية.
وفي المقابل يمكن الحديث عن فسحة معينة للسكان في الضفة تؤسسها صورة وهمية قابلة للمحو في أي لحظة. ومع إمكان العمل في إسرائيل والمستوطنات ترتفع نسبة التشغيل والتي لو أُسقطت من الحساب لما ابتعدت كثيراً نسب البطالة في الضفة عن تلك الموجودة في القطاع كما توضح وكالة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية- UNCTAD.
وأصدرت الاونكتاد تقريرا يرصد التطورات في الاقتصاد الفلسطيني، وأشارت في بداية التقرير الى دور الاحتلال الإسرائيلي في الركود الاقتصادي واللاتنمية، وقمع الإمكانيات. وأكد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (2015) على أن غزة ستكون مكاناً غير قابل للعيش في عام 2020. مما يعني أن هناك حاجة ملحة لجهود ضخمة لتكثيف جهود إعادة الإعمار في قطاعات مثل الصحة، والتعليم والطاقة، والمياه والصرف الصحي، إلا أن الحالة في تفاقم متزايد منذ ذلك الحين، ووفقا للبنك الدولي فالأداء الاقتصادي في قطاع غزة كان الأسوأ في العالم على مدى العقدين الماضيين، مع استمرار حالة العقاب الجماعي لأكثر من 10 سنوات مفروضة برياً وبحرياً وجوياً.
هذا حال دون الوصول إلى 35% من الأراضي الزراعية، 85% من مياه الصيد في غزة، مع انخفاض في الصادرات بلغ 65% في أوائل عام 2017 مقارنة بما كان عليه الحال عام 2007. وحوالي نصف السكان يعانون من انعدام الأمن الغذائي، على الرغم من أن 80% يحصلون على المساعدة الغذائية وغيرها من أشكال التحويلات الاجتماعية، عدا عن النقص المستمر في الطاقة الكهربائية، والذي يترتب عليه إعاقة في جميع الأنشطة الاقتصادية ويؤدي إلى إعاقة تقديم الخدمات، كتمديد المياه ومعالجة مياه المجاري والخدمات الصحية، فانخفض الحصول على إمدادات من المياه المعالجة من 98% من السكان عام 2000 إلى 10% عام 2014، ويتم تصريف مياه المجاري في البحر، ولم يتم صرف سوى 51% من مبلغ 3.5 بلايين دولار من الأموال التي تم التعهد بها في مؤتمر القاهرة المعني بإعادة الإعمار في القطاع المنعقد عام 2014، ولم تتحقق الاستجابة لـ 48% من مجموع احتياجات الانتعاش، ومن أشد العواقب التي تترتب على الاحتلال الاسرائيلي ثبات معدل البطالة والذي تعتبر من أعلى المعدلات في العالم، فبلغت النسبة في قطاع غزة 42%، مع التنبيه إلى أن هذا الرقم لا يعكس حجم المشكلة الحقيقية وما يصحب ذلك من معاناة اقتصادية، وتعطيل للمورد البشري وقدراته، هذا عدا عن سوء الظروف التي يعمل بها الفلسطيني حيث 78% من العاملين في القطاع الخاص في غزة يعملون بظروف عمل غير مواتية حيث يتلقون أجراً أقل من الحد القانوني. وبلغت نسبة الفقر 39%.
ويشير التقرير إلى أن الصدمة الاقتصادية وعدم تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع أدت إلى سلب الاستدامة المالية المقدمة من المانحين. نظرا لتقييد النمو الاقتصادي بممارسات الاحتلال التي تحد من الأنشطة الإنتاجية والتجارية، وهذا ما يشير له التقرير صراحة، ويؤكد التقرير على أن التنمية الاقتصادية في الأراضي الفلسطينية تتطلب تفكيك مصفوفة الضوابط التي تفرضها بنية الاحتلال الإسرائيلي والتي أدت إلى خنق الاقتصاد وسحق القاعدة الإنتاجية والإضرار بالمناخ الاستثماري. فالتنمية فلسطينيا على وجه العموم وفي غزة تدور في حلقة مفرغة، يدور معها تراجع المعونة وازدياد الاستياء السياسي، والاحتكام المتزايد للحرب، وتحقيق تنمية أو إنجاز ملموس على الأرض بالنسبة لغزة مشروط برفع الحصار.
الفكرة محل التركيز أن الاقتصاد في الأراضي الفلسطينية المحتلة عموماً يختنق، ويُجرد من كامل قدرته على خلق فرص العمل، بسبب بنية الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، ولا بد من إعادة المسألة إلى جذورها، وعياً وممارسة.