هل يُمكن القول إن للرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين (1952) حضورًا سينمائيًا؟
الرجل شخصية فاعلة ومؤثّرة في العالم. انتقاله من العمل الاستخباراتي إلى السياسة ودهاليزها غير عادي. الداعم الأول له يُدعى بوريس يلتسن (1931 ـ 2007). تحكّمه في البلد ومحيطه ودول عديدة أخرى يُلائمه كرجل أمن، بكل ما في تلك المفردة من أحمالٍ ومسالك واشتغالات. يُلائمه كرجل أمن أكثر بكثير منه كرجل سياسة. فالسياسة، عنده، أمن واستخبارات أولاً وقبل أي شيء آخر، إنْ يكن هناك شيءٌ آخر أساسًا.
هذا رجلٌ جاذبٌ للكاميرا، رغم انغماسه المديد في العمل السرّي، وهذا الأخير رافض شرسٌ لكلّ ظهور إعلامي، وحاقد على كلّ إعلام وصحافة، باستثناء صلاتٍ مشبوهة تحصل بين الطرفين أحيانًا، لأغراضٍ خاصّة بالأمني والاستخباراتيّ غالبًا. اليوم، يحتلّ فلاديمير بوتين صدارة المشهد، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفنون، تمامًا كما في الأمن والمؤامرات والمخفيّ. هو غير متردّد في استقبال ممثل فرنسي يُدعى جيرار ديبارديو (1948)، يناهض دولته الفارضة على الأثرياء ضرائب باهظة، لأن بين النموذجين، بوتين وديبارديو، مشتركات كثيرة يُمكن اختزالها بالتمرّد على المألوف في السلطة سعيًا إلى مزيدٍ من تسلّط وقمع، أو إلى تسلّط وقمع مختلفين عن السائد، وبتباهٍ حادّ بـ"أنا" قاتلة.
السينما، كفعلٍ بصريّ يستكشف الخفايا ويفضح الخبايا ويُقدِّم أكثر ما يُمكن تقديمه من الواقعيّ والحقيقيّ، غير راغبةٍ في تجاوز رجل متمكّن من إرثٍ سوفياتي متمثّل بمفردة "القيصر" ومعانيها ومكانتها واشتغالاتها. هي ذاهبةٌ إلى "القيصر الروسي" بحماسة ساعٍ إلى تبيان شيءٍ من خفايا الرجل و"عقله الباطن"، رغم أنها متيقّنةٌ من صعوبة المهمّة، لأن الرجل متلاعبٌ عتيقٌ بأناس ومؤسّسات وحالاتٍ، وبارعٌ في التنزّه بين حقول الألغام، وعارفٌ بأهمية الصورة وكيفية التعامل معها، وإنْ يكن صانع الصورة سينمائيًا كالأميركي أوليفر ستون (1946)، أو روسيًا أوكرانيًا كفيتالي مانسكي (1963). ذلك أنّ بوتين متعاملٌ مع الصورة بأشكال مختلفة: يستعين بها لظهور يريده ولترويج يطلبه، أو يواجهها (في الداخل الروسي) إنْ تتجرّأ على مخالفته.
اقــرأ أيضاً
الأميركي ستون يلتقيه في "حوارات بوتين" (2017)، والأوكراني الروسي مانسكي يتابع اللحظات التأسيسية لانتقاله من مكاتب معتمة ومنغلقة على نفسها (أمن واستخبارات) إلى الرئاسة الأولى في روسيا الاتحادية، في "شهود بوتين" (2018).
للعملين معًا ميزة المواجهة والتحدّي. هيبة الرجل الروسيّ لن تحول دون ابتكار أشكالٍ مختلفة لحواراتٍ يُراد لها كشف بعض المخفيّ في شخصيته. الأمني والاستخباراتيّ فيه يحصّنان "بلاغته" اللغوية، لكن الحصانة نفسها تتحوّل في العملين إلى نوعٍ من تفكيك لتلك الشخصية ذات الملامح الجامدة والصلبة. مادلين أولبرايت (1937) ـ الوزيرة السابقة للخارجية الأميركية ـ تصفه ـ في كتابها "الفاشية: تحذير" (2018) ـ بأنه "في غاية البرودة"، كما لو أنه "من الزواحف". تراه رجلاً ذا مواهب كبيرة وإنْ تكن "مُظلمة". تجده "ذكيًا للغاية"، يلعب "أوراقًا خاسرة بطريقة جيدة". باختصار، البرودة والموهبة والذكاء أمورٌ ماثلةٌ في عملي ستون ومانسكي، لكن القيصر الروسيّ الجديد لن يتعامل مع الكاميرا "كورقة خاسرة"، لأنه منطلقٌ إليها من ثباتٍ حاد في شخصيته وحضوره وسلوكه، غير آبه بما يُمكن للكاميرا نفسها أن تفعله به. فهو ـ كما يرى نفسه ـ أقوى منها، وأقدر على إمساكها والتلاعب بها، وأبرع في تجاهل مكامن القوّة الخفيّة فيها.
بين يوليو/ تموز 2015 وفبراير/ شباط 2017، يُسجِّل ستون 50 ساعة من الحوارات مع سيّد الكرملين، ينتج منها عملاً تلفزيونياً لـ"شوتايم" في 4 حلقات (240 دقيقة). السياسة ومساره المهنيّ وسلوكه وأفكاره أمورٌ أساسية. العالم وتبدّلاته أيضًا. العلاقة بأميركا وصورتها. السينمائيّ الأميركي، أحد أبرز منتقدي السياسات الأميركية ومسالك الإدارات الحاكمة، يحاول، عبر بوتين، مقارعة بلده. السياسي الروسي يتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية وفقًا لمصالحه، إذْ لا تعنيه ثقافتها واجتماعها ونظرتها إلى الحياة والعلاقات الإنسانية والاشتغالات المتنوّعة. السينمائيّ الأميركي ـ كعادته ـ يستعين بالمونتاج لتركيب الصُوَر التي يبغيها. هذا عاملٌ إيجابيّ، أحيانًا، في وضع بوتين في الإطار المطلوب. لكن السؤال الأبرز هو: ما المطلوب؟ فالسجال الصداميّ شبه منعدم، والتفكيك السينمائي الذي يعتاده ستون باهتٌ أو عاديّ، ومسائل آنيّة تحدث في بلدانٍ "يتورّط" الروسيّ فيها غير مطروحة. المونتاج مُساهمٌ فنيّ في تبيان معالم عديدة في شخصية بوتين معروفة ومتداولة.
اقــرأ أيضاً
هذا كلّه يتناقض و"شهود بوتين" ("العربي الجديد"، 11 يوليو/ تموز 2018). الأوكرانيّ الروسيّ أعمق في تبيان بعض تلك الشخصية، في إحدى أهمّ المراحل المهنيّة في حياة صاحبها. ما تقوله مادلين أولبرايت يتّضح كثيرًا في فيلم فيتالي مانسكي. الكاميرا التي تُلاحقه في أمكنة كثيرة قادرةٌ على أن تكون عينًا متلصّصة (بمعرفة بوتين طبعًا) تُعرّي من دون كلامٍ كثير، في حين أنّ الكلام الوارد يُساهم في التعرية السينمائية البديعة، التي تكشف صرامة الأمني وخبث الاستخباراتي وقسوة السياسي، صاحب العينين الجامدتين والابتسامة الحادة بالتباساتها وغموضها.
رغم أن "الحوارات" أخفّ صخبًا وأكثر مسالمةً من "الشهود"، إلاّ أن العملين معًا ـ وكل واحد منهما يستحق أكثر من قراءة نقدية واحدة ـ يُشكّلان أحد المداخل السينمائية المهمّة إلى شخصية ذات نفوذ قاسٍ داخل روسيا وخارجها. يُشكّلان أيضًا محطّة في قراءة نتاجاتهما السينمائية، ومكانة العملين في تلك النتاجات ومساراتها.
هذا رجلٌ جاذبٌ للكاميرا، رغم انغماسه المديد في العمل السرّي، وهذا الأخير رافض شرسٌ لكلّ ظهور إعلامي، وحاقد على كلّ إعلام وصحافة، باستثناء صلاتٍ مشبوهة تحصل بين الطرفين أحيانًا، لأغراضٍ خاصّة بالأمني والاستخباراتيّ غالبًا. اليوم، يحتلّ فلاديمير بوتين صدارة المشهد، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفنون، تمامًا كما في الأمن والمؤامرات والمخفيّ. هو غير متردّد في استقبال ممثل فرنسي يُدعى جيرار ديبارديو (1948)، يناهض دولته الفارضة على الأثرياء ضرائب باهظة، لأن بين النموذجين، بوتين وديبارديو، مشتركات كثيرة يُمكن اختزالها بالتمرّد على المألوف في السلطة سعيًا إلى مزيدٍ من تسلّط وقمع، أو إلى تسلّط وقمع مختلفين عن السائد، وبتباهٍ حادّ بـ"أنا" قاتلة.
السينما، كفعلٍ بصريّ يستكشف الخفايا ويفضح الخبايا ويُقدِّم أكثر ما يُمكن تقديمه من الواقعيّ والحقيقيّ، غير راغبةٍ في تجاوز رجل متمكّن من إرثٍ سوفياتي متمثّل بمفردة "القيصر" ومعانيها ومكانتها واشتغالاتها. هي ذاهبةٌ إلى "القيصر الروسي" بحماسة ساعٍ إلى تبيان شيءٍ من خفايا الرجل و"عقله الباطن"، رغم أنها متيقّنةٌ من صعوبة المهمّة، لأن الرجل متلاعبٌ عتيقٌ بأناس ومؤسّسات وحالاتٍ، وبارعٌ في التنزّه بين حقول الألغام، وعارفٌ بأهمية الصورة وكيفية التعامل معها، وإنْ يكن صانع الصورة سينمائيًا كالأميركي أوليفر ستون (1946)، أو روسيًا أوكرانيًا كفيتالي مانسكي (1963). ذلك أنّ بوتين متعاملٌ مع الصورة بأشكال مختلفة: يستعين بها لظهور يريده ولترويج يطلبه، أو يواجهها (في الداخل الروسي) إنْ تتجرّأ على مخالفته.
الأميركي ستون يلتقيه في "حوارات بوتين" (2017)، والأوكراني الروسي مانسكي يتابع اللحظات التأسيسية لانتقاله من مكاتب معتمة ومنغلقة على نفسها (أمن واستخبارات) إلى الرئاسة الأولى في روسيا الاتحادية، في "شهود بوتين" (2018).
للعملين معًا ميزة المواجهة والتحدّي. هيبة الرجل الروسيّ لن تحول دون ابتكار أشكالٍ مختلفة لحواراتٍ يُراد لها كشف بعض المخفيّ في شخصيته. الأمني والاستخباراتيّ فيه يحصّنان "بلاغته" اللغوية، لكن الحصانة نفسها تتحوّل في العملين إلى نوعٍ من تفكيك لتلك الشخصية ذات الملامح الجامدة والصلبة. مادلين أولبرايت (1937) ـ الوزيرة السابقة للخارجية الأميركية ـ تصفه ـ في كتابها "الفاشية: تحذير" (2018) ـ بأنه "في غاية البرودة"، كما لو أنه "من الزواحف". تراه رجلاً ذا مواهب كبيرة وإنْ تكن "مُظلمة". تجده "ذكيًا للغاية"، يلعب "أوراقًا خاسرة بطريقة جيدة". باختصار، البرودة والموهبة والذكاء أمورٌ ماثلةٌ في عملي ستون ومانسكي، لكن القيصر الروسيّ الجديد لن يتعامل مع الكاميرا "كورقة خاسرة"، لأنه منطلقٌ إليها من ثباتٍ حاد في شخصيته وحضوره وسلوكه، غير آبه بما يُمكن للكاميرا نفسها أن تفعله به. فهو ـ كما يرى نفسه ـ أقوى منها، وأقدر على إمساكها والتلاعب بها، وأبرع في تجاهل مكامن القوّة الخفيّة فيها.
بين يوليو/ تموز 2015 وفبراير/ شباط 2017، يُسجِّل ستون 50 ساعة من الحوارات مع سيّد الكرملين، ينتج منها عملاً تلفزيونياً لـ"شوتايم" في 4 حلقات (240 دقيقة). السياسة ومساره المهنيّ وسلوكه وأفكاره أمورٌ أساسية. العالم وتبدّلاته أيضًا. العلاقة بأميركا وصورتها. السينمائيّ الأميركي، أحد أبرز منتقدي السياسات الأميركية ومسالك الإدارات الحاكمة، يحاول، عبر بوتين، مقارعة بلده. السياسي الروسي يتعامل مع الولايات المتحدة الأميركية وفقًا لمصالحه، إذْ لا تعنيه ثقافتها واجتماعها ونظرتها إلى الحياة والعلاقات الإنسانية والاشتغالات المتنوّعة. السينمائيّ الأميركي ـ كعادته ـ يستعين بالمونتاج لتركيب الصُوَر التي يبغيها. هذا عاملٌ إيجابيّ، أحيانًا، في وضع بوتين في الإطار المطلوب. لكن السؤال الأبرز هو: ما المطلوب؟ فالسجال الصداميّ شبه منعدم، والتفكيك السينمائي الذي يعتاده ستون باهتٌ أو عاديّ، ومسائل آنيّة تحدث في بلدانٍ "يتورّط" الروسيّ فيها غير مطروحة. المونتاج مُساهمٌ فنيّ في تبيان معالم عديدة في شخصية بوتين معروفة ومتداولة.
هذا كلّه يتناقض و"شهود بوتين" ("العربي الجديد"، 11 يوليو/ تموز 2018). الأوكرانيّ الروسيّ أعمق في تبيان بعض تلك الشخصية، في إحدى أهمّ المراحل المهنيّة في حياة صاحبها. ما تقوله مادلين أولبرايت يتّضح كثيرًا في فيلم فيتالي مانسكي. الكاميرا التي تُلاحقه في أمكنة كثيرة قادرةٌ على أن تكون عينًا متلصّصة (بمعرفة بوتين طبعًا) تُعرّي من دون كلامٍ كثير، في حين أنّ الكلام الوارد يُساهم في التعرية السينمائية البديعة، التي تكشف صرامة الأمني وخبث الاستخباراتي وقسوة السياسي، صاحب العينين الجامدتين والابتسامة الحادة بالتباساتها وغموضها.
رغم أن "الحوارات" أخفّ صخبًا وأكثر مسالمةً من "الشهود"، إلاّ أن العملين معًا ـ وكل واحد منهما يستحق أكثر من قراءة نقدية واحدة ـ يُشكّلان أحد المداخل السينمائية المهمّة إلى شخصية ذات نفوذ قاسٍ داخل روسيا وخارجها. يُشكّلان أيضًا محطّة في قراءة نتاجاتهما السينمائية، ومكانة العملين في تلك النتاجات ومساراتها.