فلسطين ليست قضيتي أيضاً!
أثارت مداخلات وتغريدات لمثقفين من دول عربية خليجية، أخيرا، نحت إلى التحلل من تبني القضية الفلسطينية، على خلفية إعلان دولة الإمارات مضيها في إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع "إسرائيل"، أثارت ردود فعل غاضبة من متابعين عرب؛ من مختلف البلاد العربية ومنها دول خليجية، فضلاً عن غضب الفلسطينيين أصحاب القضية، إذ انتقد المتابعون تلك التوجهات، واستغربوها، معتبرين إشهارها بمثابة خيانة ما استقرّ عليه الوجدان الشعبي للأمة العربية.
أشهر تلك التغريدات، نشرها السعودي تركي الحمد، وقال فيها إن فلسطين ليست قضيته. وبينما لقيت تلك التغريدة تأييداً من متابعين للكاتب المعروف، غرّد متابعون سعوديون آخرون منتقدين ما جاء فيها، ذهب بعضهم إلى توجيه كلامٍ قاسٍ في حق صاحبها.
هل قال تركي الحمد كفراً فعلاً؟ أحسب أن الحُكم على قوله وأقوال من ذهبوا مذهبه إنما يتضح في حقيقة ما وراء مقولاتهم، إذ حين لا تكون "القضية المركزية"، بحسب ما تعارف عليه العرب عقودا طويلة، قضيتهم، فأي قضية يقصدون أنها اليوم قضيتهم الكبرى والرئيسية والمركزية؟ لا أعتقد أن الفلسطينيين، أصحاب القضية، يمانعون لو كانت للمثقفين العرب قضية مركزية أخرى، تتمثل في إنهاض بلدانهم وتطويرها وتنميتها تنمية حقيقية، فذلك في المحصلة يصبّ في مصلحتهم الوطنية أيضاً، ويخدم، ولو على المدى البعيد، قضية تحرير فلسطين وإقامة الدولة الفلسطينية، فقد تمثّلت مشكلة قضية فلسطين، منذ يومها الأول، في تأخّر العرب حضارياً مقارنة بما أتيح للدولة العبرية من فرص وفّرتها لها القوى الدولية التي دعمت وجودها، وما تزال تتحالف معها وتضمن تفوقها، هذا فضلاً عمّا صنعته دولة الاحتلال لنفسها من تقدّم تكنولوجي وعسكري واقتصادي.
حجم الاختلال في العلاقات الاقتصادية للدول الموقعة اتفاقات سلام مع الدول المسيطرة تعمّق منذ دخول العالم مرحلة العولمة
سيكون طيباً لو انشغلت البلدان التي تتخذ مثل هذه الخطوة الإماراتية (ومعظمها تتوفر بفضل تصدير النفط على موارد مالية هائلة)، وانشغل مثقفوها معها، في بناء اقتصاد متين ينطلق من رسم خطط وطنية استراتيجية لامتلاك تكنولوجيا متطوّرة، ينبني عليها إنتاج صناعي حقيقي، يفضي بدوره إلى إنجاز تنمية غير تابعة، قوامها "استقلال القرار الاقتصادي الوطني". تلك التنمية هي الحد الفاصل للتحوّل من دول نامية، حتى وإن كانت غنية، إلى دول صناعية لها مكانتها المؤثرة في العالم، ولها من ثم كلمتها المسموعة في المحافل الدولية.
التنمية غير التابعة عملية حضارية شاملة، قوامها اعتماد الدولة على نفسها، في استفادتها من الموارد الطبيعية والبشرية المحلية، لتحقيق مصالحها ورفاه شعبها. وبالطبع، تصدر تبعية التنمية عن ارتباط وثيق، ذي طبيعة جدلية، بالتخلّف الحضاري، فهي تنتج عنه، وتؤدي إلى استمراره في آن معاً، ما يُكرّس ارتباط الدول غير المتقدمة بالدول المتقدّمة والاستعمارية السابقة، الساعية إلى استغلال مواردها (خصوصاً الطبيعية، مواد أولية لصناعاتها)، وهو استغلالٌ يتمثل في استيرادها السلع الأولية منها، وتصديرها السلع المصنّعة إليها. ونتيجة هذه العلاقة المختلّة، ثم سعي الدول المتقدمة إلى إدامتها كونها مستفيدة منها، تنتج حالة "التبعية الاقتصادية"، بوجوهها: الاقتصادية المباشرة (السيطرة على فائض العمل في البلد التابع)، والتجارية (اعتماد البلد التابع على الدولة المسيطرة في علاقاته التجارية)، والمالية (سيطرة رأس المال الأجنبي على النظام المصرفي بشكل يعيق توجيه السياسة الائتمانية نحو تشجيع الإنتاج)، والتقنية (استيراد التكنولوجيا من الدولة المسيطرة، وما يرتبط بها من أفكار وخدمات). وفي المحصلة، تُعيق التبعية فرص تقدّم الدول التابعة، وتُعطّل نهضتها، لأن إنجازها يتعارض مع استمرار حالة "العلاقات المختلّة" التي تخدم مصالح الدول المسيطرة. وفي كل الأحوال، إنجاز خطوات تنموية غير تابعة، يعني بناء طريق متمايز للتنمية، يتناسب مع سمات المجتمع وطبيعته، فلا يُشترط فيه اتباع نموذج بعينه.
التنمية غير التابعة عملية حضارية شاملة، قوامها اعتماد الدولة على نفسها، في استفادتها من الموارد الطبيعية والبشرية المحلية
هل يقصد المتحللون من قضية فلسطين إنجاز تنمية كهذه؟ لو كان الأمر كذلك، فإن كاتب هذه السطور سيكون أول القائلين معهم "فلسطين ليست قضيتي"، لكن مراجعة أحوال الدول العربية التي سبقتهم في إبرام اتفاقيات السلام مع إسرائيل، ابتداءً من كامب ديڤيد الأولى في عام 1978، لا تبشّر بذلك، إذ لم نشهد نهضة فيها بالإفادة من إنهاء حالة الحرب، بل بالعكس نجدها قد تراجعت اقتصادياً ولم تتقدّم صناعياً بشكلِ يوازي ما فعلته بلدان أخرى في شرق آسيا، مثلاً، ومنها دول إسلامية.
صحيح أن هذا الحال لم يكن سببه إبرامها اتفاقيات سلام مع إسرائيل، ولكن الشاهد أن تلك الاتفاقيات لم تغيّر في واقع حالها التنموي شيئاً، بل إن حجم الاختلال في علاقاتها الاقتصادية مع الدول المسيطرة تعمّق منذ دخول العالم مرحلة "العولمة" في العقود الثلاثة الأخيرة؛ إذ أدّى انفتاح اقتصاداتها، بوصفها دولا نامية، باتجاه إدماجها في الاقتصاد العالمي، سعياً إلى الحصول على التمويل أو الاستثمارات الأجنبية، إلى تعميق تبعيتها لاقتصادات الدول المتقدّمة، وهذا طبيعي، لأن العلاقة بين الطرفيْن، المتقدّم والمتأخر، التي تُقام على أساس "الاعتماد المتبادل"، لا بد أن تميل لمصلحة الأول، كونه الأقدر على التحكّم بمضمون التبادل وشروطه وحدوده، بشكلٍ يفضي إلى خضوع الدول ذات الاقتصادات التابعة إلى ضغوط السلع والخدمات، ذات الجودة العالية التي تعرضها الدول المتقدمة، مستعينة بما تتوفر عليه من قدراتٍ إعلانيةٍ ودعائيةٍ ضخمة أمام الشعوب. والمحصلة أن اتفاقيات السلام تلك لم توفر لاقتصادات هذه الدول ما يفيدها في الوصول إلى حدٍّ من التوزان، يخدم قضية التنمية فيها.
تُعيق التبعية تقدّم الدول التابعة، لأن إنجازه يتعارض مع استمرار حالة "العلاقات المختلّة" التي تخدم مصالح الدول المسيطرة
وإذا علمنا أن التبعية الاقتصادية تُقاس بناءً على مؤشرات، منها: درجة الانكشاف التجاري للدولة، أي نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي، باعتبار أن تخصيص جزء كبير من الإنتاج للتصدير يعد دليلاً على اعتماد الدولة على الخارج في توليد الناتج المحلي، ومن ثم أن الأوضاع الاقتصادية في الدول المسيطرة تؤثر مباشرةً على عملية التنمية في الدولة، ومنها أيضاً درجة التركّز السلعي للصادرات، أي ما إذا كان ثمّة سلعة أو مجموعة سلع هي الأكثر تصديراً دون غيرها، لأن ذلك يعني ضعف فرص استقلال الاقتصاد وتحرّره من التبعية، ومنها كذلك مدى تناسب حجم الصادرات مع حجم الواردات، ومدى اعتماد التصدير على سوق دولة واحدة، أو عدد محدود من أسواق الدول، سواء بالنسبة لسلعةٍ واحدة أو أكثر، إذا علمنا ذلك أمكن لنا استنتاج أن اعتماد دول خليجية تتحضّر لإبرام اتفاقيات سلامٍ مع إسرائيل، على سلعة النفط بشكل رئيسي، يشرح أن إنجازها تنميةٌ غير تابعة ستنهض بأحوالها بشكل كبير ومؤثر، فإذا كانت تنظر إلى اتفاقية السلام ضرورة في هذا الاتجاه، فالأمر لا يرفضه عاقل، وستجد من عرب كثيرين، بمن فيهم الفلسطينيون، استحساناً ومباركة. المسألة كلها إذن تكمن في القضية البديلة التي يريد أن يتبناها هؤلاء المنسحبون، وفي المقدار الذي سيفيده التحلل من القضية الفلسطينية في خدمة قضاياهم البديلة.