فلك نيرودا

10 نوفمبر 2018
(عمل لـ ديتر مامل)
+ الخط -

يصل عدد المشرّدين والمقتلعين في عالم اليوم إلى 65 مليون إنسان. وإذا كان لنا أن نثق بالإحصاءات الرسمية، فإن مثل هذا العدد من سكّان العالم الهائمين بلا وطن هو أعلى رقم للاجئين في التاريخ المدوّن، أو في التاريخ المدوّن بعد حكاية الشتات البابلي الشهيرة على الأقل.

على سواحل أوروبا حطام سفن غارقة يُخفى بعيداً عن الأنظار، أو يعالج نتائجه تقانيون بيروقراطيون. يعلّق منح تصاريح إقامات، تصادر ممتلكات وتوضع في مخازن، ويُعتقل مقدِّمو طلبات اللجوء في مراكز احتجاز قسرية، وتمرّ سنوات، وتتبدد في انتظار طويل الأمد، انتظار تجري خلاله عملية قاسية تنتهي إما بالموافقة على اللجوء أو الرفض، تُملأ فيها استمارات وترسل برقياً، انتظاراً لسماع أخبار عن الأقارب الذين تمكنوا من الهرب، والذين لم يستطيعوا وربما تسلّموا إذناً بالإقامة أو ماتوا.

الشعراء حاولوا إرسال إيماءات تضامن شعرية مع المهاجرين المقموعين في ما يصبح، ويا للمفارقة، عالم تكنوقراطية معولمة معادية للتنقل والتجوال. إيماءات غالبية هؤلاء الشعراء وقعت على آذان صماء، واصطدمت مثل أسهم مفلولة، بدروع وسائط الإعلام المهيمنة الراهنة ولغتها وبرمجياتها الخالقة الضجيجَ. أما الأحزاب المعنية بالموضوع، القوية، فتحاول إثارة فزع في حديثها عن "أزمات اللاجئين"، والكثيرون من ليبراليي العالم الأول المثقفين والتقدميين حملة بطاقات التعريف، الذين ساندوا سياسات الإبعاد والترحيل الجماعي في الماضي، يتهمون اليوم متطرفي الجناح اليميني بأنهم هم في الأصل كارهون للأجانب.

وانتهى الشعراء في غالب الأحيان إلى خدمة هؤلاء الليبراليين التبسيطيين في تباين واضح مع المثل الذي ضربه التشيلي الشهير بابلو نيرودا (1904- 1973)، ذلك الذي يمكن أن يقدّم درساً في التضامن المدهش:

"ستسأل لماذا شعره
لا يتحدث عن الأحلام، عن أوراق الشجر، أيضاً
عن براكين أرض وطنه العظيمة؟
تعال وانظر إلى الدم في الشوارع
تعال وانظر
الدم في الشوارع
تعال وانظر
الدم في الشوارع!".

حين أصبح بابلو نيرودا سفيراً لجمهورية "تشيلي" الأميركية اللاتينية في إسبانيا، لم يكن سفيراً اعتيادياً يقضي وقته في المآدب وحفلات الأوبرا ومشاهدة مصارعة الثيران، نيرودا وجد نفسه في مرمى نيران متبادلة بين الكتائب الفاشية والجمهوريين. وكانت هناك إشاعات متداولة عن وجود معسكرات اعتقال لعائلات الجمهوريين الإسبان أقامها الفاشيون على امتداد الحدود مع فرنسا. والآن وهو في أوروبا، أصبح واقعاً تحت ضغط أن يجعل أفعاله مطابقة لتباهيه بشجاعته.

وتحرّك نيرودا بفعالية، متخفياً تحت اسم "نفتالي رويز"، الشاعر الذي دعم مقاومة محاربي المابوتشي الأسطورية أوائل المستعمرين الإسبان في تشيلي، ليدافع عن أصدقائه. كثيرون منهم كانوا شعراء إسباناً مثل رافائيل آلبرتي الذي سأله القنصل التشيلي سؤالا غير معقول: "لماذا لا تصنع حصاناً أحمر؟"، وكأن شاعراً يمكن أن يصنع حصاناً طروادياً ليضعه على بوابات الفاشية. صديق آخر لنيرودا هو فيديريكو غارسيا لوركا كان قد قتله أحد ألوية فرانكو:

"أخي، يا أخي
فيديريكو، هل تتذكّر
وأنت تحت الأرض، هل تتذكر بيتي
بشرفاته حيث لاطف نور حزيران الأزهار في فمك؟".

كانت عين نيرودا على سفينة بحرية عتيقة تحمل اسم "ويننابيج"، هي في الأصل سفينة تجارية فرنسية لنقل البضائع، وقدّر لهذه السفينة، قبل أن تباع لكندا، أن تقوم بمهمة تشيلية سرية. سفينة نيرودا هذه، أو فلك نيرودا كما أصبحت تعرف تشبيهاً لها بفلك نوح، ستنقل لاجئين جمهوريين إلى ميناء "بالبارايسو" شمال سانتياغو مباشرة على ساحل تشيلي. كان اسم المهمة "نقل الكائنات"، ومن أجلها قام الشاعر الدبلوماسي بحملة لجمع الأموال في مدن أرجنتينية مثل "روزايو" و"قرطبة" و "بوينس آيرس"، وكلها مدن أقامها بأكملها وسكنها مهاجرون غالبيتهم من أصول إسبانية وإيطالية.

وجمع نيرودا أموالا من حكومات مقاطعات راغبة في استضافة اللاجئين، ولها علاقات قوية مع الجمهوريين. وساعدت على التضامن مع المناوئين للنظام الملكي ضغينة موجودة طويلة الأمد ضد العرش الإسباني منذ أول انتفاضات برجوازية سكان المدن المختلطي الأعراق ضده. وتوقفت السفينة الممتلئة باللاجئين في جزيرة من جزر البحر الكاريبي قبل أن تواصل الإبحار إلى الأرجنتين، ثم تصل أخيراً إلى بفالبارايسو في تشيلي.

دفاعاً عن مهمة هذه السفينة كتب نيرودا في رسالة له: "أحببتُ منذ البداية كلمة "ويننابيج". إما أن تكون للكلمات أجنحة أو أن لا تكون، وكلمة "ويننابيج" تعني "مجنحة". رأيت شراعها لأول مرة في ميناء يلفه الضباب بالقرب من "بورديه". كانت سفينة عتيقة، جميلة، لها تلك المهابة التي اكتسبتها من البحار السبعة بمرور الزمن. وأمام عيني وتحت نظري، كان على السفينة أن تمتلئ بألفي رجل وامرأة جاؤوا من معسكرات الاعتقال، ومن مناطق صحراوية جرداء، جاؤوا من قلب الخوف، من الهزيمة، ويجب أن يمتلئ بهم ذلك الفلك، أن يأتي بهم إلى سواحل تشيلي، إلى عالمي المألوف حيث يمكنهم أن يُستقبلوا بأذرع مفتوحة. كانوا محاربين إسباناً عبروا الحدود الفرنسية نحو منفى استمر لمدة 30 عاماً".

في فترة الحرب الأهلية التي قضاها نيرودا في برشلونة، مرّ شعره بتحول داخلي كان أكثر زلزلة وقوة من مجرد فعل التطهير بالمعنى الأرسطي، قاده إلى أن يسلك ويتصرف نيابة عن الآخرين والمضطهدين. وفي لحظة، تغلّب الشاعر الذي يقارن نفسه بكائن أسطوري مثل "جوبيتر"، على نرجسيته كشاعر أو حوّل ما دعاه بعضهم بـ"جنون العظمة" إلى علامات إيثار يتفوق بها على بشريته. وكان الفلك واحداً من هذه العلامات بالتأكيد. كانت السفينة مأثرة استثنائية ستظل تراثاً في الشعر التشيلي.


* Arturo Desimone شاعر من أروبا وهي جزيرة في البحر الكاريبي ما زالت مستعمرة من "مملكة هولندا". يعيش بين أوروبا والأرجنتين وعاش لبعض السنوات في تونس، يكتب باللغة الإنكليزية

** ترجمة محمد الأسعد

دلالات