18 نوفمبر 2024
فوضى الموقف الأميركي وتداعياته المحتملة على الأزمة الخليجية
بعد يومين فقط من زيارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى السعودية، ومشاركته في قمة الرياض، تفجّرت أزمةٌ غير مسبوقة في العلاقات البينية الخليجية؛ بدأت بحملةٍ إعلامية شديدة ضد قطر، ووصلت حد فرض حصار عليها. ولم ينكر ترامب وجود علاقةٍ بين زيارته إلى المنطقة وتفجر الأزمة الخليجية؛ إذ كتب في حسابه على "توتير" إن "من الجيّد أن نرى أن زيارة المملكة العربية السعودية واللقاء مع الملك و50 دولة بدآ بإعطاء نتائجهما. قالوا إنهم سيتبنّون موقفًا أكثر حزمًا في التعامل مع تمويل التطرّف، وكل التلميحات كانت تشير إلى قطر. ربما سيكون هذا بداية نهاية الإرهاب". ويبدو واضحًا أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض شجع السعودية والإمارات على تفجير خلافٍ مكبوتٍ مع قطر، وتصفية حسابات قديمة معها.
وجاءت تصريحات ترامب ومواقفه حول الأزمة الخليجية متناقضةً مع ما ذهبت إليه وزارتا الخارجية والدفاع، بل والبيت الأبيض نفسه؛ فقد دعا هؤلاء جميعًا إلى التهدئة وعدم التصعيد. ففي اليوم الذي أعلنت فيه السعودية والإمارات والبحرين قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، كان وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيان، ريك تيلرسون، وجيم ماتيس، يحثّان الأطراف المختلفة على الهدوء، وإيجاد حل سلمي للأزمة. كما صرح الناطق باسم القوات الجوية الأميركية التابعة للقيادة الأميركية الوسطى، المقدم داميان بيكارت، إن "الولايات المتحدة والائتلاف (الدولي لمكافحة الإرهاب) يشعران بالامتنان للقطريين لدعمهم وجودنا (في قاعدة العديد التي تشن منها الولايات المتحدة هجماتٍ على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية) والتزامهم طويل الأمد الأمن الإقليمي". ولذلك، فقد كانت تغريدات ترامب مفاجئة لمسؤولي وزارة الدفاع، بل إن اتهاماته قطر بتمويل التطرّف جاءت مناقضةً كذلك لتغريدات نشرتها السفيرة الأميركية في قطر، دانا شل سميث، قبل ذلك بيومين، في الرابع من حزيران/ يونيو الجاري؛ إذ قالت إن قطر حققت "تقدمًا حقيقيًا" في كبح الدعم المالي للإرهابيين.
وعلى الرغم من أن الناطق باسم البيت الأبيض، شون سبايسر، حاول الحدّ من الأضرار الدبلوماسية التي ترتبت على تغريدات ترامب، فإن الرئيس الأميركي عاد وناقض توضيحات الناطق باسمه. ففي اليوم الذي غرّد فيه عبر "توتير" موجهًا أصابع الاتهام إلى قطر، قال سبايسر إن "الولايات المتحدة تريد نزع فتيل هذه الأزمة، وحلها على الفور ضمن المبادئ التي عرضها الرئيس فيما يتعلق بالقضاء على تمويل الإرهاب"، بل إن سبايسر ذهب إلى أبعد من ذلك، بتأكيده أن ترامب أجرى محادثات "بناءة جدًّا" مع أمير قطر خلال زيارته الرياض في أيار/ مايو.
بدا التعبير الأبرز للفوضى في الموقف الأميركي من أزمة الخليج جليًّا يوم التاسع من الشهر
أسباب الفوضى الأميركية
يشير التناقض الواضح في مواقف إدارة ترامب من الأزمة الخليجية إلى عدم وجود إستراتيجية واضحة، أو رؤية متماسكة لإدارته في السياسة الخارجية عمومًا. فخلال زيارته، الشهر الماضي، مقر حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العاصمة البلجيكية، بروكسيل، رفض الرئيس الأميركي أن يؤكد التزام بلاده مبدأ الدفاع المشترك بين أعضاء الحلف، مع أن مسؤولًا أميركيًا كبيرًا كان قد أكد أنه سيفعل ذلك. ويقول مسؤولون أميركيون إن سطرًا كان في خطاب ترامب المعد مسبقًا حول ذلك تم حذفه قبل وقت قصير من إلقاء ترامب خطابه، الأمر الذي فاجأ وزيري خارجيته ودفاعه، ومستشاريه للأمن القومي.
ويبدو أن الدائرة الضيقة حول ترامب، وتحديدًا كبير مستشاريه ستيف بانون، وصهره ومستشاره جاريد كوشنر (وعلاقاتهما ليس فقط مواقفهما)، تقف وراء هذا التخبط في السياسة الخارجية الأميركية. ذلك أن بانون يرى أن الولايات المتحدة منخرطةٌ في صراع وجودي مع "الإسلام الراديكالي"، ومن ثمّ، فإن التصعيد مع قطر، بزعم دعمها بعض التيارات الإسلامية، حتى وإن كانت مصنفة "معتدلة"، كالإخوان المسلمين، يغدو أمرًا مبررًا. أمّا بالنسبة إلى كوشنر، فإن تقارير إعلامية تفيد بأنه وترامب شخصيًّا، لديهما ميل شخصي إلى تحالف محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، ومواقف شخصية من قطر؛ ذلك أنهما سعيا قبل سنوات إلى الحصول على شراكات تجارية وتمويلية من قطر وفشلا في ذلك. وبالنتيجة، فإن مصالح أميركا الحيوية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا في الخليج العربي، تواجه تحدياتٍ كبرى جرّاء ضعف كفاءة الرئيس الأميركي، وعدم خبرته، واعتماده مسوغاتٍ أيديولوجية صارمة وغير عملية في توجيه دفة السياسة الخارجية، فضلًا عن حساباتٍ وخصوماتٍ شخصية. أضف إلى ذلك أن ترامب الذي يبدو محاطًا بالمشكلات داخليًّا، ويواجه حتى احتمالًا بالعزل، يبحث عن أي إنجاز سياسي، ولو كان مفتعلًا. وبما أن صلاحياته في السياسة الخارجية أكثر ولديه حرية أكبر من السياسة الداخلية، فإنه قد يكون رأى في التصعيد مع قطر، بحجة مكافحة تمويل الإرهاب، فرصة لتحقيق إنجازٍ يمكن أن يدّعيه في خضم فشله المتراكم.
تداعيات محتملة على مصالح لأميركا
على الرغم من ميل ترامب وصهره ومستشاره إلى تحالف بن زايد وبن سلمان، فإن دوافع الولايات المتحدة وحساباتها ومصالحها تختلف عن دوافع هذا التحالف لفرض المقاطعة
أمّا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فيمثّل أمن الخليج العربي واستقراره أحد أعمدة الإستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا بسبب احتياطاته من مصادر الطاقة، كالنفط والغاز، فضلًا عن أهمية دور مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مساعي احتواء إيران. وفيما يتعلق بقطر، تأطرت العلاقات الأميركية - القطرية المشتركة في أعقاب حرب الخليج عام 1991، وذلك عندما وقّعت الدولتان اتفاقية تعاونٍ عسكري، ثمّ تعزّزت أكثر عام 2003 مع انتقال مقر قيادة الجيش الأميركي في المنطقة إلى قاعدة العديد، بعد إخلاء قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية. وتُعدّ قاعدة العديد، والتي تبعد 40 كلم جنوب غرب العاصمة القطرية، الدوحة، أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، وتضم نحو 11000 جندي أميركي. وتحتضن مركز العمليات الأميركية الجوية المشتركة في هذه القاعدة مهمات القيادة والسيطرة على القوة الجوية الأميركية في العراق وسورية وأفغانستان، فضلًا عن 18 دولة أخرى. وتتوفر هذه القاعدة على أطول المدرجات في الخليج العربي، بطول 12500 قدم، وتستوعب 120 طائرة مقاتلة. وقد استثمرت قطر مبلغ مليار دولار لبنائها خلال التسعينيات، وهو ما دعّم العلاقات العسكرية الأميركية - القطرية. كما أن هذه القاعدة تحتضن مقرًا متقدمًا للقوة الجوية للقيادة الوسطى الأميركية، ومركز العمليات الجوية والفضائية المشترك، وغيرها من الوحدات الجوية الأميركية. ويتخوّف المسؤولون الأميركيون، وخصوصًا في وزارة الدفاع، من احتمال أن تكون كل هذه الامتيازات التي تحصل عليها الولايات المتحدة في قطر مهدّدة، إذا استمرت حملة التصعيد الدبلوماسي معها.
إضافة إلى ما سبق، فإن هواجس أخرى تساور المسؤولين الأميركيين من استمرار الأزمة، وأهمها:
• أن تتمكن روسيا من التسلل إلى المنطقة من خلال التشققات في منظومة مجلس التعاون لدول
• الإخلال بالتوازن في المنطقة في سياق محاولات احتواء إيران والحرب على "داعش"، إذا ما استمر الانقسام الخليجي. وتخشى واشنطن من أنه إذا استمر جيران قطر الخليجيون في عزلها، فإنها قد تلجأ إلى تعزيز علاقاتها بإيران. أمّا على صعيد الحرب على "داعش"، فلا يخفي مسؤولو وزارة الدفاع الأميركية قلقهم من أن مقاطعة السعودية والإمارات والبحرين قطر وحظر السفر إليها قد يمنع مسؤولي هذه البلدان من العسكريين من زيارة قاعدة العديد للتنسيق الجماعي.
• استمرار تفاقم الأزمة قد يضع حلفاء أميركا في المنطقة على حافّة مواجهة محتملة، خصوصًا مع إعلان تركيا تفعيل اتفاقات عسكرية مشتركة سابقة مع قطر.
• يبدي المسؤولون الأميركيون قلقًا من أن احتمال أن تكون للحصار على قطر تداعياتٌ اقتصادية على الشركات الأميركية التي تعمل في الخليج العربي، فقد تتطور الأمور إلى ضغوط تمارسها السعودية والإمارات والبحرين على تلك الشركات، للانسحاب من قطر أو مواجهة عقوبات اقتصادية وحظر من العمل في بلدانها.
• ترى جهاتٌ في واشنطن أن الضغط على قطر لقطع علاقاتها مع بعض الجماعات التي تعارضها الولايات المتحدة وتصنفها "إرهابية"، مثل حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أو تحاربها، كحركة طالبان، سوف يضر بالمصالح الأميركية؛ لأن الانفتاح يسمح بإجراء اتصالاتٍ أميركية مع هذه الحركات عند الحاجة. وبحسب مسؤول أميركي، "يجب أن يوجد مكان يمكننا لقاء طالبان فيه، وأن يوجد مكانٌ تذهب إليه حركة حماس، ويمكن عزلها فيه، والحديث إليها". ومعلوم أن فتح "طالبان" مكتبًا لها في الدوحة عام 2013 إنما جاء بناء على طلب أميركي. وبهذا المعنى، فإن قطر، بما تمثله من انفتاح إعلامي وسياسي على مختلف التيارات الفاعلة، تمثل رئة للتنفس في منطقةٍ لا تقبل أي هامش للاختلاف. ويبدو أن هذا ما قبلته إدارتا جورج بوش الابن وباراك أوباما من قبل، بما في ذلك تحمل تغطية قناة الجزيرة الإخبارية، على الرغم من امتعاضهما منها.
خلاصة
تمثّل الفوضى في موقف إدارة ترامب من أزمة الخليج استمرارًا لنهجٍ تعانيه هذه الإدارة في السياسة الخارجية منذ وصولها إلى السلطة، فنزق ترامب وبغضه المؤسسة الحاكمة، ورفضه نصائحها، فضلًا عن غياب ناظم للسياسة الخارجية الأميركية في عهده، يجعل الفوضى السمة العامة في عمل هذه الإدارة. وبهذا المعنى، تصبح أزمة الخليج مجرد عنوان جديد لذلك. سيتحدّد الموقف الأميركي من الأزمة الخليجية بناء على أي النهجين سينتصر، نهج المؤسسة الحاكمة بخبرائها وبيروقراطييها وحساباتها وهواجسها، أم رعونة ترامب وخفته؛ وإن كان ثمّة مؤشرات على أن المؤسسة الحاكمة بدأت تستعيد زمام الأمور، من دون وجود ضمان فعلي لذلك.