في أولى مساءاتهم الصيفية بإحدى القطع العسكرية سُعِدَ الجنود "الأغرار" بصوت أم كلثوم يصدح أغنية "أغداً ألقاك" عبر مكبرات الصوت في وقت استراحتهم، بعد قليل نادى عليهم المدربون لينفذوا عقوبة جماعية قاسية.
اتبع الضابط المسؤول أسلوب بثّ نفس الأغنية يومياً قبيل كل عقوبة جماعية، لذلك كان طبيعياً أن يطلق الجنود عبارات الاستهجان والشتائم كل يوم عندما يسمعون أولى نغمات مقدمتها الموسيقية، لا بل عند سماعهم لصوت تصفيق الجمهور المعتاد في بداية كل أعمال"كوكب الشرق".
بعد سنوات من نهاية الخدمة اجتمع ثلاثة من جنود تلك الدفعة، قال أحدهم: "ما زالت أم كلثوم بالنسبة لي قمة الغناء العربي، ولكن عندما أفتح مجلد أغانيها في حاسبي الشخصي، يخطر لي أن أسمع أياً من أعمالها، باستثناء "أغداً ألقاك".
بالتأكيد فإن تلك الحادثة لا تنقص من أهمية الأغنية ولا مكانة صاحبتها، لأن المشكلة ليست فيها بل بالفعل المتكرر الذي تمّ تحميله على ظهرها عنوة إزاء مجموعة من الناس.
اليوم وعلى نطاق أوسع تبرز ظاهرة مشابهة في سورية، حيث تبثّ أغاني السيدة "فيروز" يومياً ولساعات طويلة على محطات فضائية، تعتمد آلية نشر الأخبار السياسية والعسكرية الميدانية مكتوبة على شاشتها، مع توظيف صوت "فيروز" كخلفية اعتاد السوريون على سماعها دون كلل أو ملل، لا بل اعتادوا تفضيل الإذاعة أو القناة التي تبثّ فترات أطول من أعمالها.
قبل آذار 2011 كرست إذاعة "شام إف إم" هذا الأسلوب فأصبح كأنه ماركة مسجلة باسمها، وقد لاقى نجاحاً كبيراً وجماهيرية واسعة، في وقت كانت أخبارها المكتوبة تعنى بالشأن الخدمي والثقافي بالدرجة الأولى، أما بعد قيام الثورة السورية فقد اتسعت تلك الظاهرة حيال "بياعة الخواتم" بشكل واضح، ومن باب تقليد ما نجحت به "شام إف إم" سابقاً تم إطلاق عدة إذاعات مثل "توب نيوز" لصاحبها "ناصر قنديل" وقبلها "الخبر" إضافة لـ "شام إف إم" لكن مع تغير نوعية الأخبار، فكانت محاولة لربط صوت "جارة القمر" الذي لا يختلف عليه سوريّان بعجلة الحدث السوري اليومي وفق رؤية الطرف المسيطر على إعلام الداخل السوري وهو النظام.
وبعد ثلاثة أعوام ونيف عانى فيها الشعب السوري من قتل وقمع وتهجير لا مثيل لهم في العصر الحديث، نجد أن القائمين على هذه القنوات قد نجحوا بحسب مبدأ "بافلوف" في المواءمة بين أصوات أحبّها السوريون منذ سنوات طويلة وبين أخبار "المندسين" ثم "المسلحين" ثم "الإرهابيين المتطرفين" وانتصارات الجيش السوري عليهم. ومن المؤكد أن مواقف وتصريحات "زياد الرحباني" الذي وقف على الضفة الثانية من قضية الحراك السوري، قد ساهمت في هذه المواءمة خاصة عندما سرّب للإعلام تصريحاً قال فيه: "إن فيروز تحب حسن نصر الله".
يختلف التأثر بهذا الضخ الإعلامي على طبق من موسيقا وأغانِ، يختلف نسبياً على مستويين، المستوى الأول يجسده "الاصطفاف السياسي" للمتلقي السوري بين مؤيد ومعارض، ولربما لن نجد آثاراً واضحة وتبايناً في مواقف الناس حيال هذه المسألة، لأن الاصطفاف الفيروزي الواحد لكل من الطرفين – والفني بشكل عام- يعتبر الأقدم والأكثر رسوخاً من "الاصطفاف السياسي" الحالي، لذلك يبرز المستوى الثاني بشكل أقوى وهو مستوى تعاقب الأجيال، فمن دون أن يدري، يتشرب الجيل الناشئ جرعات الفن الجميل ممزوجاً مع الخبر الذي تقدمه له ماكينة إعلامية تابعة للسلطة، وبالتالي ليست (حيادية) أي فاقدة للمصداقية.
نسمع "بكرة انت وجاية رح زين الريح.." ونقرأ في نفس اللحظة: "مقتل الإرهابي أبو فلان الفلاني... ومسلحون يقتحمون مؤسسة كذا ويقتلون.. إلخ". هذا سيخلّف جيلاً يقول عندما يسمع صوت فيروز: "أرجوك أوقف هذه الأغنية أو هذه المطربة"، وهذا ليس جديداً ولا أدل على ذلك من ربط تلاوة آيات من القرآن الكريم بذكرى وفاة شخص عزيز أو عدة أشخاص على امتداد حياتنا. فهل تعلم السيدة "فيروز" كيف بات السوريون "يتلقون" أغانيها؟
* كاتب سوري مقيم في دمشق