فيلسوف معرة النعمان بين سجع الحمام وزئير الأسد
أجمع المؤرخون الذين ترجموا حياة فيلسوف المعرة وعصره، أن حادثة سياسية كانت بينه وبين صالح بن مرداس أمير بني كلاب، جرت وقائعها في معرة النعمان، سنة ثماني عشرة وأربعمئة، ولم يفصِّلوا الواقعة تفصيلاً تاماً، لاختلافهم في حقيقتها.
وقد أشار فيلسوف المعرة إليها في أكثر من موضع في لزومياته. بعضهم يقول إن أهل معرة النعمان تمردوا على صالح، فحاصرهم، فلما ضيق عليهم شفعوا إليه فيلسوف المعرة فقبل شفاعته.
ولكن لمَ عصوه وتمردوا عليه؟ يقول ابن العديم في كتابه "الإنصاف والتحرّي في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي"، أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على صاحب الماخور الذي أراد اغتصابها. فنفر كل من في الجامع، وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه. وكان صالح بن مرداس الكلابي في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك، وعسكر بظاهر المعرة وشرع في قتالها ورميها بالمنجنيق، واعتقل من أعيانها سبعين رجلاً، إقامة لهيبة السلطان.
لما رأى أهل المعرة ألا قبل لهم بذلك، سعوا إلى فيلسوفهم يسألونه الخروج إلى صالح في معسكره بظاهر المعرة، والشفاعة لهم عنده. وما زالوا به حتى خرج متوكئاً على يد قائد له، وقيل لصالح إن باب البلدة قد فتح وخرج منها رجل يُقاد كأنه أعمى. فقال: هو أبو العلاء أوقفوا القتال. وأذن له وأكرمه وعرفه شوقه إلى لقائه، ثم سأله: ألك حاجة؟ فلما ذكر له أنه جاء شفيعاً لقومه، أجاب صالح: قد وهبتها لك يا أبا العلاء.
ونحن هنا نبحث مع عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، من خلال كتابه "تجديد ذكرى أبي العلاء" عن ترتيب زمني لما جرى، علنا نصل إلى حقيقة هذه الواقعة الخطيرة. حين أطل القرن الرابع من الهجرة على الناس دخلت سلطة الخليفة في بغداد طورها الأضعف عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فقوي بذلك الضعف أمر عرب البادية في الشام، وأصبحوا يتسامون إلى الملك.
ومن هؤلاء صالح بن مرداس الكلابي أمير بني كلاب وزعيمهم، وقد دخل حلب سنة اثنتين وأربعمئة في خمسمئة من فرسان قومه، يريدون من حاكمها الصلات والجوائز، وقد طمعوا فيه، واستهانوا بسلطته، ولكن حاكم حلب أمر بغلق أبواب المدينة، وقتل من بني كلاب مئتين وأسر أكثر من مئة، وفيهم زعيمهم صالح بن مرداس حُبس في قلعة حلب. ثم يقول ابن الأثير في رواية الحادثة، أن حاكم حلب عمد إلى إذلال صالح بأن أكره أهل إحدى زواجاته الجميلات ويقال لها جابرة على الزواج منه، فرضيت في سبيل إطلاق أهلها من الأسر.
احتال صالح بن مرداس للخلاص من سجنه، وهرب إلى قومه، ثم عاد إلى محاصرة حلب في ألفي فارس من بني كلاب يضيقون الحصار على حاكمها حتى استسلم. وانصرف صالح وقد ظفر من الثأر والمال وإضعاف خصمه وإذلاله بما أراد. وبعد بضع سنين من تلك الحادثة تحالف صالح بن مرداس الكلابي وحسان بن مفرج الطائي وسنان بن عليان على أن يقتسموا البلاد، فيمتلك صالح حلب إلى عانة على الفرات، ويملك حسان الرملة الفلسطينية إلى مصر، وتكون دمشق الشام إلى سنان.
وفي ذلك يقول فيلسوف المعرة: "أرى حلباً حازها صالح/ وجال سنان على جلقا/ وحسان في سلفي طيئ/ يُصرّف من عزّه أبلقا". وبذلك ابتدأت الدولة المرداسية سنة أربع عشرة وأربعمئة. فما حكاية صالح مع أهل المعرة وحصارهم ورميهم بالمنجنيق؟ اختلف المؤرخون اختلافاً كثيراً في رواية الحادثة، ولكن فيلسوف المعرة ذكر سببها وبين نتيجتها وشفاعته فيها. فأما سبب الحادثة فهو أن امرأة لم يسمها أحد من المؤرخين ولكن فيلسوف المعرة سماها (جامع) أقبلت يوم الجمعة على الناس وهم في مسجدهم فشكت إليهم أن أصحاب خمارة بلدة معرة النعمان تعرضوا لها وأرادوها بمكروه، فغضب لها الناس، فدخلوا الخمارة، وحطموا دنان الخمر، ثم هدموا الخمارة على ما فيها. وقد رضي فيلسوف المعرة عن هذا كل الرضا.
وحمده أحسن الحمد فقال: "أتت جامع يوم العَرُوبة جامعاً/ تقص على الشهّاد بالمصر/ أمرَها فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها/ لخِلتُ سماء الله تمطر جمرها/ فهدّوا بناء كانت يأوي فِناءه/ فواجر ألقت للفواحش خُمرَها/ وزامرة ليست من الرُّبد خضبت/ يديها ورجليها تنفق زمرها/ ألفنا بلاد الشام إلف ولادة/ نُلاقي بها سود الخطوب وحُمرها".
وبلغ الخبر أحد كبار كتاب صالح، فقبض على سبعين من أفاضل أهل معرة النعمان، فقام الناس لنصرة هؤلاء، وثاروا على صالح بن مرداس وجنده. واشتد الأمر، وعظم الخطب، حتى دعا أهل البلدات المجاورة لمعرة النعمان في مساجدهم إلى نصرة أولئك الموقوفين في سجون صالح. فما كان من صالح إلا أن أمر بحصار أسوار معرة النعمان ومن ثم تأهب لاقتحامها. فهرع أهلها إلى فيلسوفهم، الذي سفه أخلاقهم وعاداتهم ومعتقداتهم وخرافاتهم، فتوسلوا به إلى صالح، فخرج إلى ظاهر البلدة.
وقيل لصالح: إن باب المدينة قد فتح وخرج منه أعمى يتوكأ على قائد له، فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعوا القتال للنظر ماذا يريد؟ ودخل فيلسوف المعرة على صالح فأكرمه وشفّعه، واستنشده، فارتجل أبياتاً جاءت في اللزوميات: "تغيبت في منزلي برهة/ ستير العيوب فقيد الحسد/ فلما مضى العمر إلا الأقل/ وحُمَّ لروحي فراق الجسد/ بعثت شفيعاً إلى صالح/ وذلك من القوم رأي فسد/ فيسمع مني سجع الحمام/ واسمع منه زئير الأسد".
ورد عليه القائد: بل نحن الذين تسمع منا سجع الحمام وأنت الذي نسمع منك زئير الأسد. ثم سأله عن حاجته فأخبره بها، فأصدر أمراً بالانسحاب، وترك معرة النعمان لأهلها. نعم تراجعت سلطة العسكر أمام سلطة مفكر حر، ألمَّ بفكر العرب وثقافتهم، واستمدَّ من تلك الثقافة رموزها الفلسفية، فأنضجها في أتون العقل، وصنع منها مشروعاً حضارياً عملاقاً نستطيع القول إنه ما زال حياً إلى يومنا هذا. وهي بهذا القيد حالة نادرة، أن يتراجع عسكري أمام فيلسوف.