وهي أيضاً الموضوع الذي اختار المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو تناوله في فيلمه "تمبكتو"، الذي حظي بشرف أن يكون فيلم افتتاح الدورة 25 لمهرجان قرطاج السينمائي في تونس، المنعقد بين 29 نوفمبر/تشرين الثاني وحتّى 6 ديسمبر/كانون الأول 2014.
الفيلم أعلن عن توجّهاته منذ لقطاته الأولى: مجموعة من الجهاديين يدخلون مسجد مدينة "تمبكتو" ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع إمام يحمل خطابه كنوزاً من الحكمة والسلام والطمأنينة، في تضادّ تامّ مع ما يدعون إليه. خصوصاً بعد أن منع هؤلاء الجهاديون أهالي المدينة من الاستماع إلى الموسيقى ولعب كرة القدم، وحتّى من الضحك.
ثم يتوجّه الإمام إلى الجمع المدجّج بالسلاح قائلاً: "أنا أيضاً أقوم بالجهاد، لكنّه جهاد معنوي. جهادكم يسيء إلى الإسلام وإلى المسلمين. الإسلام هو الصفح والحلم والرأفة".
المخرج اعتمد على هذا الإمام، المتشبّع بروح الدين السميح، كي يجعل منه "لازمة"، تتكرّر في لقطات عدّة من الفيلم، للتذكر بما يجب التذكير به. مثل أنّ الزواج الإجباري ليس من الإسلام في شيء، ما لا يجد أمامه هؤلاء المتطرفون أيّ حجّة وسرعان ما يولون الأدبار مجرّدين من جميع "أسلحتهم"، بحسب سيساكو.
المخرج قال، في حديث لوكالة "الأناضول"، إنّ شريطه "ينبع من واقع معاش، من تجربتي الشخصية وتجارب آلاف الآخرين الذين نشأوا في سياق إسلامي متسامح ومنفتح. هو ثمرة تكويني، هذا الإسلام الذي ينضوي على قيم عظيمة رغم الأخطار التي تتهدّده"، مضيفاً: "أردتُ أن أندّد بالاحتكار الذي يمارسه هؤلاء على الدين والتذكير بأنّ الإسلام يبثّ خطاب سلام، وأنّ روح الدين تتجسّد في التعايش مع الآخرين".
وفي اختياره شخصيات الفيلم، تعمّد سيساكو إقامة توازن بين الفكر المتطرّف ووجوه تتّسم بالصلابة المعنوية وقادرة على إقامة جدار منيع ضدّ التطرّف. ومن بين هذه الشخصيات امرأة تبيع السمك أراد البعض إجبارها على لبس القفازات فكان أن رفضت الأمر وتوجّهت إليهم في نبرة تحدٍّ قائلة: "اقطعوا يدي إن شئتم، افعلوا ما تشاؤون، لكنّني لن أستسلم لإرادتكم"، في لقطة تختزل الفيلم برمّته: "هذه المرأة موجودة على أرض الواقع.. النساء يثرنَ على العنف أكثر من الرجال، وتلك هي طريقتهنَ في حماية عائلاتهنَ"، قال سيساكو.
مشاهد "مقاومة" الأهالي للزحف المتطرّف عبّرت عن الحبكة الدرامية للشريط وشكّلت عموده الفقري، ولعلّ أبرز هذه المشاهد جَلدُ امرأة ذات صوت ملائكيّ لإجبارها على الامتناع عن الغناء، فما كان منها إلا أن حوّلت الصرخات التي كانت تطلقها تحت وطأة السياط إلى أنشودة عذبة تخترق القلوب والنفوس.
الشبّان أيضا كان لهم نصيب من المقاومة بعد أن منعتهم الجماعات المسلّحة من لعب كرة القدم، فنظّموا مباراة.. لكن دون كرة. سيساكو اعتبر أنّه "أمام الهمجية والعبثية، أدّى هؤلاء الشبّان رقصة المقاومة، ولم يعد لغياب الكرة تأثير على ما بدا أهمّ من لعبة كرة القدم في حدّ ذاتها".
كاميرا مخرج الفيلم كشفت أيضاً عن وجوه التناقض العميق الذي يعيشه المتشدّدون، ولا أبلغ من ذلك موقف عبد الكريم، أحد الجهاديين الذي شغف قلبه بـ"ساتيما"، إحدى النساء المتزوّجات. وطفق في أحد مشاهد الفيلم يمعن النظر إليها وهي تقوم بغسل شعرها، ثم أمرها بالاحتشام وبتغطيته.
سيساكو يؤمن بأنّه "يمكنك أن تسجن الحبّ والجمال ولكن لا يمكنك أن تقضي عليه. هو أمر واحد أوحد، الحبّ يشمل الإيمان والعظمة والخلود، وفي يوم من الأيام سوف نعود".
ويختم المخرج الموريتاني بنَفَس تفاؤلي يختزل آمال شعوب برمّتها: "نأمل أن تقوم الدول الأفريقية بثوراتها، من الطبيعي أن نشكّك في إمكانية حصول ذلك، لكنّ الأمل ما زال قائماً، فنحن نرنو إلى الحريّة، وصفاء الإيمان يغنيك عن العيش مدجّجاً بالسلاح. والعقيدة شأن بين العبد وخالقه".