لأكثر من ثلاثين عاماً والمؤرخ البريطاني فيليب مانسيل (1951) يعمل بين تاريخ المدن في الحقبة العثمانية وتاريخ فرنسا الملكية، نشر خلالها 15 كتاباً موسوعياً من أبرزها كتاب "المشرق: عجائب وكوارث على ضفاف المتوسط" والذي صدر أول مرة عام 2010، وها هي سلسلة "عالم المعرفة" تصدر ترجمته تحت عنوان "ثلاث مدن مشرقية: سواحل البحر الأبيض المتوسط بين التألق والهاوية" والتي أنجزها مصطفى محمد قاسم.
الكتاب يحمل خصوصية كبيرة بين كتب التاريخ التي تناولت الحقبة نفسها، ومن أهم ميزاته تمكّن مؤلفه من الاطلاع على وثائق الأرشيف الخاصة لأحفاد العائلات الكبيرة والمؤثرة في ثلاث مدن هي بيروت والإسكندرية وسميرنا (أزمير اليوم)، وهو بذلك يتحدث عن تقاطعات تاريخ ثلاثة شعوب؛ العرب والأتراك واليونانيين.
الخصوصية الأخرى للكتاب هي عين مانسيل الحادة والحيوية، فقد زار المدن الثلاث وبنى وصفها على مشاهدات ومقارنات، ومزج التاريخ السياسي بالتطورات الأساسية في هذه المدن؛ تفاصيل يشرحها بدقة ووضوح لا يخلو من جماليات الأسلوب ومتعة اللغة.
يسير الكتاب في خطين متوازيين، الجغرافي والتاريخي، ويفرد مانسيل، بعد المقدمة، فصلين لقراءة تاريخ مدينة سميرنا التي يرى أنها كانت مزدهرة حتى حلول الحرب العالمية الأولى، متتبعاً من خلالها نمط انبثاق المدن التجارية شرق المتوسط. ثم يفرد فصلين آخرين عن الإسكندرية التي يتتبعها حتى ثورة يوليو، أما الفصل السادس فيخصصه لمدينة بيروت، وفي الفصل الأخير من الكتاب يتناول تقاطعات تاريخ الإسكندرية وبيروت.
يقارب الكاتب بين تواريخ المدن الثلاث، من حيث إنها كانت أماكن مارست السلطة الأوروبية استراتيجيات قوية فيها وكان للعائلات الثرية مصالح تجارية أيضاً. كما أنها مدن يعيش أهلها نمط حياة باذخة، لاسيما المسيحيين الشرقيين الذين كانت لهم علاقات بالغرب، من حيث التعليم والثقافة والعمل، ويرى مانسيل أن هذه الحواضر تشترك بشكل أساسي في تأثير الثقافة الفرنسية عليها، لافتاً إلى أن علاقة فرنسا بالمنطقة سبقت نابوليون بكثير، وتعود إلى التحالف العثماني الفرنسي في أواخر العصور الوسطى.
يذكر مانسيل مثلاً أنه وبالرغم من الحضور العسكري البريطاني الكبير في مصر قبل عام 1950، كانت "الليسيه" الفرنسية أكثر تطلعاً لكل العائلات المصرية التي تطمح لإرسال أبنائها والصعود في الطبقة التي ينتمون إليها. وفي عام 1922 حين أحرقت أحياء المسيحيين الأرمن في أزمير، وفقاً لمانسيل، فقد استخدم الأرمن الفارون لغتهم الفرنسية التي يتحدثونها بطلاقة ليجدوا مكاناً لهم في السفن الفرنسية.
أما في بيروت، أو لبنان عموماً، فإن الرابط مع الثقافة الفرنسية أوضح وأقوى. لكن ثمة اختلافا يخص بيروت، فبالرغم من التراجيديا التي عاشتها المدينة، ظلّت مدينة كوزموبوليتانية بدرجات تزيد وتنقص بحسب الظروف.
الكتاب صدر في جزء أول عن سلسلة "عالم المعرفة" لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ومن المفترض أن يصدر منه جزآن آخران.