في الحلقة الأولى من "أحوال السينما الفلسطينية" ("العربي الجديد"، 7 أغسطس/ آب 2017)، تناولت القراءة النقدية فصولاً من تاريخ هذه السينما، بتركيزها على الانتقال من سينما النضال إلى سينما الفرد. هنا، حلقة ثانية وأخيرة.
يُعتَبر إيليا سليمان أحد أبرز مؤسّسي النمط الثاني (الفرد الفلسطيني جوهر الحكاية، وهمومه أصل النص السينمائيّ)، وإنْ يكن لمشاركته في بلورة مفرداته امتداد ما في محاولات سابقة (قد تكون غير مكتملة)، يمثِّل ميشال خليفي أحد أبرز رموزها. هنا يجب التوضيح: اختيار هذين المخرجين لا يلغي آخرين عملوا على تطوير لغة التعبير السينمائي في أفلامهم. التوقّف عندهما نابعٌ من لحظتين تاريخيتين، صنعتا ما يُمكن وصفه بـ"حجر الأساس" لسينما فلسطينية تبغي التقاط النبض الإنساني الفلسطيني، من دون التغاضي عن أولوية السينما، وتحاول أن تجعل الكاميرا عيناً ترى، وإحساساً يعكس واقعاً، وأداة تواكب حياة الفلسطيني وتؤرّخها، وتفرد مساحات واسعة لها، من دون خطابية فجّة. لحظتان تبتعد إحداهما عن الأخرى 11 عاماً، وهي مدّة كفيلة بتفعيل هذا النمط، وبإيجاد مزيدٍ من مفرداته السينمائية.
لرشيد مشهراوي، مثلاً، دورٌ في تفعيل هذا التوجّه، في أفلامٍ (قليلة) اتّخذت هذا الاتجاه درباً لها، كـ "حتى إشعار آخر" (1996) و"عيد ميلاد ليلى" (2008). هذا ما أدّى، في بداية العشرية الثانية من القرن الـ 21، إلى تثبيت هذا التوجّه السينمائي، المعتَمِد على ركائز ثقافية واجتماعية وإنسانية، فإذا بالجيل اللاحق ينخرط، أكثر فأكثر، في بلورة خطاب ذاتي يبوح بمكنونات النفس، فتنفتح حكايته على مساحة الجماعة ("عالم ليس لنا" لمهدي فليفل، 2012).
إذا شكّل "عرس الجليل" (1987) لميشال خليفي انطلاقة تأسيسية لسينما فلسطينية مغايرة عن تاريخها المرتبك، فإن "سجل اختفاء" (1998) لإيليا سليمان منح هذه السينما لغتها الإبداعية في ابتكار صُوَر حسّية عن واقع حياتي. ورغم أن كثيرين "هاجموا" فيلم خليفي، متّهمين إياه بالتطبيع، أو منتقدين إياه لبساطته الجمالية وفقر اشتغاله التخييلي، إلا أن "عرس الجليل" وضع حجراً أساسياً في تحويل المسار التاريخي للإنتاج الفيلميّ الفلسطيني، المشبع بأشرطة توثيقية وبأعمال روائية تمزج بطولات الفلسطيني بمرارات عيشه، أو بأفلام "نضالية"، حقّق بعضها لبنانيون وعرب. ومع أن "سجل اختفاء" أعلن قدرة الصورة السينمائية على رفد المشهد الفلسطيني بواقعية العيش الإنساني العادي، من خلال نصّ يقول حقائق، ويُخفِّف من حدّة النضال الانفعالي ولعبة الضحية أمام جلادها؛ إلا أن المسار الذي أوجده إيليا سليمان منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم (حقّق أول فيلم له عام 1990، بعنوان "مقدمة لنهاية جدل") "مرجعٌ سينمائيٌّ لمقاربة حالة فلسطينية مُتحرّرة من سطوة الإرث النضالي.
لا تُمكن قراءة الحركة السينمائية الفلسطينية من دون التوقّف عند هاتين اللحظتين، مع التشديد على الاختلاف البصري في المعالجة السينمائية بين الفيلمين، وبين أسلوبي المخرِجَين في إنجاز أفلامهما، المنضوية في إطار البحث السينمائي في الحيّز الفلسطيني في "أراضي الـ 48". فـ "عرس الجليل" التقط وقائع عيشٍ في بيئة اجتماعية عربية خاضعة لنظم وتقاليد متزمّتة، مُضيفاً بُعداً أساسياً على المأساة الفلسطينية، يتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي. بينما ذهب "سجل اختفاء" إلى مقاربة أنماط العيش الفلسطيني في "أراضي الـ 48"، بمزج الذاتيّ البحت بالجماعي المفتوح على أسئلة العيش في ظلّ بيئة كهذه.
أعاد "عرس الجليل" إلى الفلسطيني إنسانيتَه، مُقدِّماً إياه بصفته إنساناً يعاني كبتاً وتقوقعاً وقلقاً وخوفاً وعجزاً، ويُعاني بطش الاحتلال الإسرائيلي في الوقت نفسه. وفعّل "سجل اختفاء" إنسانية الفلسطيني أكثر، مُتعاطياً معه بصفته مواطناً مقيماً في مكانه الاجتماعي الخاصّ به، وفي أمكنة الاحتلال الإسرائيلي. وبينما استمرّ ميشال خليفي في اختيار مواضيع عامّة، مرتبطة بوقائع الحياة الفلسطينية في فلسطين المحتلّة، اختار إيليا سليمان نبش الذاكرة الفردية، محوّلاً الحميميّ والخاصّ إلى مرآة شفّافة وقاسية تتوغّل فيهما كي تخرج إلى ما هو أوسع وأشمل.
تُشكّل أفلام ميشال خليفي وإيليا سليمان مرايا تعكس مرارة العيش اليومي، اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً، وقسوة مواجهة التفاصيل الناتجة من صلف الاحتلال الإسرائيلي. هذا لا يعني مساواة بين الطرفين (البيئة المحلية بتقاليدها وطقوسها الحياتية، والاحتلال الإسرائيلي)، بل إقراراً بواقع يومي، يُسلِّط سليمان الضوء عليه بسخرية مريرة، وبواقعية حادّة، وببراعة في ابتكار لغة سينمائية صافية، تروي تفاصيل اليوميّ، وتعكس معالم العيش في بلدٍ محتلّ. فمن "سجل اختفاء" (1998) إلى "الزمن الباقي" (2009)، مروراً بـ "يد إلهية" (2002)، يبدو سليمان عيناً ثاقبة في تفكيك الاجتماع الفلسطيني، وفي المواجهة الساخرة لاحتلالٍ يُمكن الإيقاع به، والسخرية منه.
نزار حسن، بدوره، يواجِه الإسرائيلي بحدّة وواقعية، في أفلامٍ عديدة، كـ "اجتياح" (2004): شهادة جنديٍّ إسرائيلي مُشارك في اجتياح مخيم جنين (2002) أمام لقطات مُصوّرة أثناء الاجتياح. براعة حسن تتمثّل في وضع الجندي أمام أفعال جُرمية له ولرفاقه الجنود، مستدرجاً إياه إلى إدانة نفسه بنفسه، بأسلوب ذكيّ وموارب.
*مقتطفات من دراسة أطول تصدر لاحقاً
اقــرأ أيضاً
لرشيد مشهراوي، مثلاً، دورٌ في تفعيل هذا التوجّه، في أفلامٍ (قليلة) اتّخذت هذا الاتجاه درباً لها، كـ "حتى إشعار آخر" (1996) و"عيد ميلاد ليلى" (2008). هذا ما أدّى، في بداية العشرية الثانية من القرن الـ 21، إلى تثبيت هذا التوجّه السينمائي، المعتَمِد على ركائز ثقافية واجتماعية وإنسانية، فإذا بالجيل اللاحق ينخرط، أكثر فأكثر، في بلورة خطاب ذاتي يبوح بمكنونات النفس، فتنفتح حكايته على مساحة الجماعة ("عالم ليس لنا" لمهدي فليفل، 2012).
إذا شكّل "عرس الجليل" (1987) لميشال خليفي انطلاقة تأسيسية لسينما فلسطينية مغايرة عن تاريخها المرتبك، فإن "سجل اختفاء" (1998) لإيليا سليمان منح هذه السينما لغتها الإبداعية في ابتكار صُوَر حسّية عن واقع حياتي. ورغم أن كثيرين "هاجموا" فيلم خليفي، متّهمين إياه بالتطبيع، أو منتقدين إياه لبساطته الجمالية وفقر اشتغاله التخييلي، إلا أن "عرس الجليل" وضع حجراً أساسياً في تحويل المسار التاريخي للإنتاج الفيلميّ الفلسطيني، المشبع بأشرطة توثيقية وبأعمال روائية تمزج بطولات الفلسطيني بمرارات عيشه، أو بأفلام "نضالية"، حقّق بعضها لبنانيون وعرب. ومع أن "سجل اختفاء" أعلن قدرة الصورة السينمائية على رفد المشهد الفلسطيني بواقعية العيش الإنساني العادي، من خلال نصّ يقول حقائق، ويُخفِّف من حدّة النضال الانفعالي ولعبة الضحية أمام جلادها؛ إلا أن المسار الذي أوجده إيليا سليمان منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم (حقّق أول فيلم له عام 1990، بعنوان "مقدمة لنهاية جدل") "مرجعٌ سينمائيٌّ لمقاربة حالة فلسطينية مُتحرّرة من سطوة الإرث النضالي.
لا تُمكن قراءة الحركة السينمائية الفلسطينية من دون التوقّف عند هاتين اللحظتين، مع التشديد على الاختلاف البصري في المعالجة السينمائية بين الفيلمين، وبين أسلوبي المخرِجَين في إنجاز أفلامهما، المنضوية في إطار البحث السينمائي في الحيّز الفلسطيني في "أراضي الـ 48". فـ "عرس الجليل" التقط وقائع عيشٍ في بيئة اجتماعية عربية خاضعة لنظم وتقاليد متزمّتة، مُضيفاً بُعداً أساسياً على المأساة الفلسطينية، يتمثّل بالاحتلال الإسرائيلي. بينما ذهب "سجل اختفاء" إلى مقاربة أنماط العيش الفلسطيني في "أراضي الـ 48"، بمزج الذاتيّ البحت بالجماعي المفتوح على أسئلة العيش في ظلّ بيئة كهذه.
أعاد "عرس الجليل" إلى الفلسطيني إنسانيتَه، مُقدِّماً إياه بصفته إنساناً يعاني كبتاً وتقوقعاً وقلقاً وخوفاً وعجزاً، ويُعاني بطش الاحتلال الإسرائيلي في الوقت نفسه. وفعّل "سجل اختفاء" إنسانية الفلسطيني أكثر، مُتعاطياً معه بصفته مواطناً مقيماً في مكانه الاجتماعي الخاصّ به، وفي أمكنة الاحتلال الإسرائيلي. وبينما استمرّ ميشال خليفي في اختيار مواضيع عامّة، مرتبطة بوقائع الحياة الفلسطينية في فلسطين المحتلّة، اختار إيليا سليمان نبش الذاكرة الفردية، محوّلاً الحميميّ والخاصّ إلى مرآة شفّافة وقاسية تتوغّل فيهما كي تخرج إلى ما هو أوسع وأشمل.
تُشكّل أفلام ميشال خليفي وإيليا سليمان مرايا تعكس مرارة العيش اليومي، اجتماعياً وثقافياً وإنسانياً، وقسوة مواجهة التفاصيل الناتجة من صلف الاحتلال الإسرائيلي. هذا لا يعني مساواة بين الطرفين (البيئة المحلية بتقاليدها وطقوسها الحياتية، والاحتلال الإسرائيلي)، بل إقراراً بواقع يومي، يُسلِّط سليمان الضوء عليه بسخرية مريرة، وبواقعية حادّة، وببراعة في ابتكار لغة سينمائية صافية، تروي تفاصيل اليوميّ، وتعكس معالم العيش في بلدٍ محتلّ. فمن "سجل اختفاء" (1998) إلى "الزمن الباقي" (2009)، مروراً بـ "يد إلهية" (2002)، يبدو سليمان عيناً ثاقبة في تفكيك الاجتماع الفلسطيني، وفي المواجهة الساخرة لاحتلالٍ يُمكن الإيقاع به، والسخرية منه.
نزار حسن، بدوره، يواجِه الإسرائيلي بحدّة وواقعية، في أفلامٍ عديدة، كـ "اجتياح" (2004): شهادة جنديٍّ إسرائيلي مُشارك في اجتياح مخيم جنين (2002) أمام لقطات مُصوّرة أثناء الاجتياح. براعة حسن تتمثّل في وضع الجندي أمام أفعال جُرمية له ولرفاقه الجنود، مستدرجاً إياه إلى إدانة نفسه بنفسه، بأسلوب ذكيّ وموارب.
*مقتطفات من دراسة أطول تصدر لاحقاً