في أزمة الاتحاد الاشتراكي المغربي
في مناسبات عديدة، يتحول الوجه اليساري والوطني المغربي، عبد الرحمن اليوسفي، المستقيل من قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذي قاد حكومة التناوب التوافقي في المغرب بين 1998و2002، إلى بؤرة مركزية ونجم يغطى على الحدث الذي يأتي للمشاركة في صنعه، أو المساهمة في إضفاء مسحة من الجاذبية عليه. وبلغة أدق، يسرق اليوسفي الأضواء، ويجعل الكل يتلفت إليه بشكل عفوي وتلقائي.
في احتفال حزب الاتحاد الاشتراكي بمرور نصف قرن على تأسيسه، حيث أراد أن يجعل من الحدث دليل إثبات على تاريخيته وتجذّره، ورسالة سياسيةً على مناعته وقوته، كان اليوسفي مركز التظاهرة، خصوصاً في وقت أصبح فيه الحزب يعيش حالة ارتباك وغموض وفتور، وكاد أن ينزلق إلى الأسوأ، بعد سلسلة من الهزات والعواصف وصراع المصالح والمواقع.
كان الجمهور الذي حضر الاحتفال متنوعاً، وينتمي إلى فئات اجتماعية وعمرية وحساسيات فكرية وسياسية مختلفة. كان هناك خصوم الأمس الإيديولوجيون وحلفاء اليوم السياسيون، غير أن هذا الأمر لم يكن قادراً على رسم مسار آخر للحدث، فبدا واضحاً، منذ الوهلة الأولى، أن حضور اليوسفي سيلفت الأنظار وسيزعج قياداتٍ عديدة لا تحظى بالقدر نفسه من الشعبية والتقدير والإعجاب. كان الرجل في الحفل أشبه بقطعة مغناطيسية، لها قوة الجذب والتأثير، فالابتسامة الدالة على الثقة في النفس لا تفارقه، والجسد يمشي منتصب القامة، على الرغم من تقدم السن، والتفاعل مع الناس حاضر بقوة، والذاكرة متقدة، والاهتمام بالهندام لا تنازل عنه. وعندما يحضر الرصيد الأخلاقي والسياسي والنضالي للرجل، ويتضافر مع الصفات التي سبقت الإشارة إليها، ينحت من هذه المكونات صورة قائدٍ، يملك سلطة الكاريزما وقوة الأخلاق والقدرة على إحراج العقل السياسي والحزبي، عندما يتعلق الأمر بالمواقف الحاسمة.
تكرر الشيء نفسه، في رحيل الإعلامي والسياسي اليساري، أحمد الزيدي، الذي توفي يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري بشكل تراجيدي، عندما غرقت سيارته في أحد الأودية. فقد تحول اليوسفي في مختلف التظاهرات التي صاحبت هذا الحدث المؤلم إلى ملجأ رمزي لجزء كبير من مناضلي الاتحاد الاشتراكي وأنصاره، علماً أن الرجل متقدم في السن، ويخفي داخله خيبات أمل كثيرة.
بماذا يمكن تفسير التصاق وتعلق اتحاديين عديدين، وخصوصاً الشباب بشخص عبد الرحمن اليوسفي؟ ألا يدل هذا السلوك على حاجة ماسة إلى قائد من عيار اليوسفي؟ أليست مواقفه، وربما وضوح مسعاه وطريقه، هي الدوافع المنطقية والموضوعية التي تحرك المشاعر، من حين إلى آخر، في نفوس قطاع عريض من الاتحاديين، وتخلق لديهم حاجة ملحة إلى ضرورة تدبير أمور السياسة وشؤون الحزب، بأسلوب مغاير؟
ماذا لو ظل اليوسفي على رأس حزب الاتحاد الاشتراكي، أو على الأقل عضواً في قيادته لمرحلة معيّنة، هل كان الحزب سيؤول إلى المصير نفسه؟ هذه أسئلة تتبادر، تلقائياً، إلى ذهن كل مراقب محايد، يقرأ الأحداث في أبعادها وسياقاتها الحقيقية. فغالباً ما يجد الرجل نفسه مطوقاً بنشطاء كثيرين، خصوصاً الشباب، حيث يكون الحرص شديداً على أن يلتقط كل من وجد لنفسه فرصة سانحة صورة تذكارية مع اليوسفي الذي يظهر، لعين المراقب، أشبه برجل إنقاذ، يتشبث به جزء من الاتحاديين، وهم يهمسون في أذنه، أو يقولون له بصوت عال "طال انتظارك ما عودتنا غياباً، أب المناضلين، ارجع نحن ننتظر".
مؤكد أن رحيل السياسي، أحمد الزيدي، أعاد إلى الواجهة طرح الحالة التي وصل إليها حزب الاتحاد الاشتراكي، خصوصاً أن الرجل عرف لدى الخصوم، قبل الأصدقاء، بإيمانه القوي بالسياسة المتخلقة، كما عرف بصراعه الصريح مع الكاتب الأول الحالي للحزب. واللافت أنه من الصعب تصور المشهد السياسي المغربي بدون حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وسيكون الأمر أشبه بتراجيديا سياسية، لو أن سفينة الحزب فقدت البوصلة، واضطرت اضطراراً إلى الغرق، كما غرق مناضله، أحمد الزيدي، فحزب الوردة، بمرجعيته الفكرية والإيديولوجية التي تنهل من الاشتراكية الديمقراطية، وبرصيده النضالي والسياسي الذي لا جدال حوله، يشكّل حسب المهتمين بالشأن الحزبي المغربي، ضرورة سياسية لضمان اشتغال سليم وناجع للديمقراطية. وإذا سمح المرء لنفسه، ولو من باب الافتراض، تخيل حقل حزبي وطني خال من الاتحاد الاشتراكي، فإن هذا الحقل سيبدو، من دون شك، هشاً وباهتاً ومختلا، وسيكشف، وقتئذ، عن العجز السياسي والفكري المزمن، الكامن في الأجهزة القيادية والأدوات التنظيمية للاتحاد، وعن عقم في إنتاج المبادرات واقتراح الحلول.
وما يحتاج إليه حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي، في نظر كثيرين، أن يؤمن منتسبوه بأن حزبهم ضروري للمغرب، ولذلك يجب الحفاظ عليه رقماً أساسياً في المعادلة السياسية الوطنية، ومكوناً مركزياً في المشهد الحزبي والسياسي. ما يمكن أن يشكل خطراً على الاتحاد الاشتراكي هو أن ينسى اختلالات وصراعات الداخل الحزبي، وأن يعجز عن تصريف الطموحات الشخصية، وتدبير الخلافات والاختلافات، والخطأ، أيضاً، أن يعجز عن التحكم في صناعة القرار الذاتي، أو يحول صناعته إلى عملية ملتبسة وغامضة، ما يوفر شروطاً مثالية للتشويش والتأويل، والشك في مصداقية ومسؤولية وجدية وشفافية المشروع الذي يدافع عنه الحزب.
من المؤكد أنه ليس هناك خلاف حول كون الاتحاد الاشتراكي يشكل حزباً تاريخياً، بالمعنى الفكري والسياسي والتنظيمي، ويمثل فكرة تجذرت في المجتمع عبر عقود، فقد ترك بصمات لا يمكن تجاهلها على المشهد الحزبي والسياسي والاجتماعي المغربي، خصوصاً وأنه انخرط في الدفاع عن مطالب الفئات الاجتماعية المسحوقة، وتبنى مطالبها، وأشاع الأمل في نفوسها، كما أنه قاد معركة الإصلاحات، السياسية والدستورية والمؤسساتية، إلى جانب من اعتبرهم ويعتبرهم حلفاء له. لكن، لا تعفي مختلف هذه الشرعيات الحزب من الاعتراف، اليوم، بأن، جزءاً كبيراً من إخفاقاته، كامن في ذاته، وفي طريقة تدبير أجهزته، وارتهان الاجتهاد الفكري والنظري للأزمات والمناسبات.