يُشبّه عبد الله العروي في كتابه "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" العرب في علاقتهم بالغرب والمعاصرة بـ "الصانع الذي ينظر صامتاً إلى المعلّم وهو ينجز شغله لكي يقلّد حركاته في ما بعد دون أن يولي أي اهتمام لما قد يصدر عن المعلّم من أقوال".
وقد كان ينتاب دعاة المعاصرة من العرب مشاعر الخجل من هذه التناقض التي ينزلق إليها مواطنوهم ممّن يرفضون الدخول في العصر: أيعقل أن تقود سيارة حديثة بعقلية الصحراء؟ أيمكن أن تهجو أفكار التحرّر بقلم مصنوع في البلاد التي أنتجت ذلك الفكر؟ كيف يمكنكم أن تعيشوا في العصر الحديث بأجسادكم، وفي العصور الوسطى بأفكاركم وأرواحكم؟
وإذا ما تغاضينا عن الصورة المهينة التي يصوّر فيها العروي علاقة العرب بالعالم، فإن المرء يلاحظ أنه ما إن تجرّأت الشعوب العربية على فتح النوافذ لتتقدّم ببعض أفكار "المعلّم الغربي" كـ الحرية والتعدّدية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها، حتى كاد يجنّ "المعلّم" بعد أن جُنّ أتباعه هنا. لا يريد الغرب كله أن تصلنا العدوى. والأدهى، بدل ذلك، هو أن يصاب المجتمع الغربي شرقاً وغرباً بالعدوى من فيروس التناقض الذي عشناه طويلاً.
وقد أثبت "المعلّم" في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، أنه قادر على المصالحة مع أشدّ الأفكار بدائية وهمجية. وأنه يتراجع عن فكر التنوير، وينسحب من تراثه الذي أسّس للديمقراطية، ولحرية الفرد والعقل والعقلانية.
وليست الفاجعة في أن القادة الذين يستلمون السلطة في أوروبا الشرقية والغربية وفي أميركا هذه الأيام يعتبرون أن أفكار عصر النهضة والتنوير مجرّد هراء، بل في أنهم يصلون إلى هذه المواقع عبر صناديق الانتخاب الديمقراطية التي عزّزها وأكد على ضرورتها ذات العصر الذي يشتمونه ويتنكرون له. وهو ما يعني أن لديهم رصيداً أكثرياً من بين مواطنيهم بالذات الذين ملّوا كما يبدو من عصر الحريات ومن أفكار عصر الحريات.
وفي الحملة الأخيرة التي أوصلت دونالد ترامب إلى رئاسة ما يسمى أكبر ديمقراطية في التاريخ، كان من بين الشعارات المرفوعة شعار: العودة إلى البياض الأميركي. بم تختلف هذه الدعوة العنصرية المتشددة، عن أية دعوة عربية متشددة للعودة إلى زمن الطهر الأول؟ ثم ينتخبون الرجل الذي يعادي النساء والحرّيات والسود والمسلمين. ولا يعرف المرء الآن ما الذي يغضب ترامب من داعش والنصرة إذا كانت منظمة الكوكلاكس كلان تناصره وتؤيده وتتظاهر بحرية في بلاده التي تحارب الإرهاب؟
بين إمبريالية صاعدة متوحشة مثل الإمبريالية الروسية، وإمبريالية عجوز متهالكة تودّ استعادة المبادرة مثل الإمبريالية الأميركية والغربية، يتمّ نوع من المصاهرة التي تريد أن تعلن ندمها عن فكر التنوير، وتبدأ حرباً "كبيرة" ضد أي تطلع نحو الديمقراطية والحرية والعدالة لدى
أيّ شعب.
يصادف اليوم أن على الشعب السوري أن يكون الدرس التوضيحي الذي يقول للشعوب الأخرى: انظروا ما سنفعل بكم إذا تجرّأتم وناديتم بأفكارنا عن الحرية. فالنموذج المقترح على البشرية جمعاء أن تعيش في العصر بأجسادها، وتقبع في عصور الظلام بأرواحها.