في استعادة كمال جنبلاط
قبل أربعين سنة، اندلعت الحرب في لبنان (1975)، ودامت خمس عشرة سنة. وقبل ما يقل عن أربعين سنة بقليل، أي قبل ثمانية وثلاثين سنة، وقع كمال جنبلاط ضحية أول اغتيال سياسي على أيدي النظام السوري، الذي كان حافظ الأسد قد أحكم قبضته عليه عام 1970 في انقلاب عسكري، ودفع عام 1976 بجيشه إلى لبنان، ليفرض هيمنته ووصايته عليه زهاء ثلاثين سنة باسم الأخوة القومية.
جنبلاط سليل عائلة إقطاعية، وذات نفوذ في جبل لبنان منذ ما قبل الاستقلال، إلا أنه أصبح زعيماً سياسياً ورجل فكر ومعرفة وثقافة موسوعية. فقد أسس عام 1949 الحزب التقدمي الاشتراكي، مع نخبة من رجال السياسة والفكر والثقافة، ينتمون إلى مختلف الطوائف اللبنانية، رافعاً شعار "من أجل اشتراكية ذات وجه إنساني"، بقصد التمايز وأخذ مسافة من تجربة الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. وكان يكره بشدة العسكر والأنظمة الشمولية التي سيطرت على مقدرات عدة بلدان عربية في مطلع خمسينيات القرن الماضي، من مصر إلى سورية والعراق، ثم تباعاً الجزائر وليبيا والسودان.
انتخب جنبلاط نائباً في البرلمان اللبناني، وهو في سن السادسة والعشرين، وعام 1946 كان أول من وقف يحاضر في الديمقراطية، ويكتب عن الحرية والمواطنة. لم يخف أعجابه بجمال عبد الناصر، إلا أنه يوم إعلان الوحدة بين مصر وسورية عام 1958، توجه إلى دمشق على رأس وفد للتهنئة، وهناك، التقى عبد الناصر، وكان مطلبه الأساسي الحفاظ على استقلال لبنان، رافضاً أن يكون أسير "السجن العربي الكبير".
ولاحقاً، حول حافظ الأسد لبنان إلى "سجن صغير"، فطوّع سياسييه، وعاث خراباً في مؤسساته ونهب اقتصاده. وكان ممثله بمثابة الحاكم بأمره في لبنان، يركّب حكومات ويسقط أخرى، وينظم انتخابات ويركّب لوائح وينجّح سياسيين، ويلغي آخرين. ولأكثر من عقدين، اتبع حافظ الأسد سياسة "فرق تسد"، فكان تارة يقف إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب اليسارية والقومية اللبنانية ضد الأحزاب اليمينية، وتارة العكس. كان يحرّض المسلمين على المسيحيين، ثم ينقلب ليحرّض المسيحيين على المسلمين، إلا أنه كان عملياً يعتبر أن ياسر عرفات وكمال جنبلاط ومن معهما هم باختصار "مسلمين"، فعليهم الانصياع لسياسته وأوامره.
وهذا ما اكتشفه منذ البداية جنبلاط الذي كان صاحب مشروع سياسي إصلاحي، ويحلم بعملية تغيير على أساس لاطائفي. فكان أول المتمردين على إرادة الأسد وسلطته في لبنان، فسعى إلى إيقاع الهزيمة العسكرية بخصومه، فتورط في الحرب، على الرغم من أنه كان متصوفاً، ويمارس اليوغا ويرفض العنف. وفي مايو/أيار 1976 تلقى أول ضربة موجعة باغتيال شقيقته الوحيدة في منزلها، لكنه لم يتراجع. وفي خريف العام نفسه، كان آخر لقاء له مع الأسد عاصفاً رفض فيه جنبلاط التراجع عن مواقفه.
في بداية عام 1977، غادر جنبلاط بحراً إلى باريس، بحثاً عن دعم أوروبي ودولي في مواجهة صلف النظام السوري، فاعترضته البحرية الإسرائيلية، واحتجزت الباخرة التي كان يستقلها ساعات في عرض المتوسط. وفي باريس، استقبله الرئيس الفرنسي يومذاك، فاليري جيسكار ديستان، واعدا بعقد مؤتمر دولي حول لبنان. ومن هناك، توجه إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري، أنور السادات، الذي كان على خلاف مع الأسد، والذي نصحه بالبقاء في العاصمة المصرية، لأن لديه معلومات عن احتمال تعرضه لعملية اغتيال، إلا أن الزعيم اللبناني آثر العودة إلى لبنان، ليواجه مصيره على أرضه، وهو الذي كان يردد أن "من يتهرب من معركة الحياة كمن يتهرب من معركة الحق".
لم يعجب هذا التحرك بطبيعة الحال الرئيس السوري الذي اعتبره بمثابة "التحدي الوقح" لسلطته، ونفوذه في لبنان والمنطقة، فقرر على ما يبدو التخلص منه. لم يحترز جنبلاط، ولم يتخذ أية تدابير في تنقلاته، ويوم 16 مارس/آذار 1977 كان متوجهاً إلى بيروت، وفي الطريق، اعترضته سيارة على بعد أمتار من حاجز للجيش السوري، ترجل منها رجلان، وأطلقا النار عليه، فأردياه. وكانت أول ردة فعل فورية وعفوية خروج دروز عديدين، يريدون الثأر لمقتل زعيمهم، فقتلوا وذبحوا 200 مسيحي في منطقة الشوف، مشعلين فتنة مازالت آثارها ماثلة بين المسيحيين والدروز.
قضت عملية اغتيال جنبلاط على أي أمل بامكانية التغيير، وحولت الصراع في لبنان إلى صراع طائفي مليشيوي، يستمر اليوم بأشكال مختلفة، داخل المؤسسات وخارجها. وأحكم الحكم البعثي قبضته على البلد، زهاء ثلاثة عقود، بشكل شبه كامل بعدما أصبح طرفا الصراع يحتكمون إلى دمشق في حل خلافاتهم، وتوسل مصالحهم.
لم يكن جنبلاط سياسياً بالمعنى التقليدي، على الرغم من أنه وريث زعامة تضرب جذورها في التاريخ، ولم يكن أيضاً قائداً أو زعيم حزب بالمعنى التقليدي، إذ كان يعتبر أن ضمير الإنسان هو الأهم: "إذا خير أحدكم بين حزبه وضميره، عليه أن يترك حزبه ويتبع ضميره، لأن الإنسان يمكن أن يعيش بدون حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بدون ضمير". كما أن السياسة بالنسبة له "يجب أن تكون أشرف الآداب على الإطلاق". ولم يكن جنبلاط سياسياً فقط، بل كاتباً ومفكراً وفيلسوفاً صاحب بعد إنساني عميق، له أكثر من ثلاثين كتاباً ومؤلفاً وتأملات في معنى الإنسان والوجود، وله أيضا ديوان شعر.
وكان رجلاً متواضعاً، متقشفاً في حياته الشخصية. وكان متصوفاً، ينسحب فجأة من المعترك السياسي للاختلاء إلى نفسه وممارسة رياضة اليوغا، وزار أكثر من مرة الهند لهذا الغرض. كانت حرية الإنسان هاجسه، بحث عنها وقاتل من أجلها. كان يعتبر أن "لا حرية ولا تقدم من دون وعي وإدراك للذات" وقدراتها. ولبنان لا يزال اليوم يعاني مما استشرفه وتصدى له، وناضل من أجله كمال جنبلاط، من غياب للدولة واستمرار العبث المليشيوي بأمنها وقرارها، ناهيك عن استمرار عمليات الاغتيال لقيادات ومثقفين وأصحاب رأي.
وليد جنبلاط وريث والده الذي لم يحضّره للوراثة، وبعد ثلاثة عقود تقريباً من البراغماتية، يقول إنه يجلس، اليوم، على ضفاف النهر بانتظار أن تعبر جثة خصمه.