في ثقافة الإشاعة
تعتبر الإشاعة من أقدم وسائل التّعبير، ومن أعرق قنوات الإخبار في تاريخ الإنسانيّة، وهي خبر غير صحيح يُجانب الحقيقة، ويُجافي الواقع، ويتطلّع إلى إثارة المتقبّل، ودفعه إلى اتّخاذ موقف سلبيّ، أو إيجابيّ، من شخص مَا أو حدث مَا أو ظاهرة مَا. وفي الحالات جميعاً، فإنّ الإشاعة غير بريئة، فهي تحمل رسالة تروم التّأثير في الآخر، وتوجيه مواقفه من الواقع، فيجري التّهوين من أحداث معيّنة، أو التهويل منها، خدمة لطرف معيّن، ونكاية بطرف آخر. ويجري اختلاق روايات مشبوهة حول شخصيّات رسميّة، أو غير رسميّة، معروفة أو غير معروفة، قصد الإعلاء من قيمتها، أو قصد الحطّ من شأنها، داخل المجتمع، لغاية في نفس يعقوب.
وتزدهر الإشاعة خصوصاً في المجتمعات المغلقة، ففي ظلّ غياب مصادر للمعلومة موثوق بها، يميل النّاس إلى التقاط الأخبار من أفواه الأفّاكين، ويعملون على تمطيط الخبر، وتحويره، وفق ذائقتهم الشخصيّة، وميولهم الذاتيّة والمذهبيّة، ووفق مصالحهم الفرديّة، أو الفئويّة. وكثيرا ما يجد النّاس في الإشاعة متنفّسا يعبّرون، من خلاله، عن شوقهم إلى تغيير سياسيّ، أو إجراء إصلاحيّ، فيتناقلون وهم تغيير حكومةٍ، أو استقالة وزير، أو اعتزال رئيس الحكم، ويتهافتون على سماع كلّ إشاعة ممنوعة، والتّرويج لها بشكل أو بآخر. وفي المقابل، كثيراً ما يشرف النّظام الحاكم على صناعة الإشاعة، وبثّها في النّاس، قصد معرفة ردود أفعالهم مسبقاً حول أمر تريد السلطة إجراءه مستقبلاً، من قبيل التّرفيع في الأسعار، أو الزّيادة في الضّرائب، أو التّمديد في مدّة الرّئاسة، وغير ذلك من إشاعات جسّ النّبض كثير.
لكنّ ثقافة الإشاعة لا تنمو في الدّول الشموليّة فحسب، بل تنتشر، أيضاً، في الدّول التي تعيش مراحل انتقاليّة، بعد استقلال أو انقلاب أو ثورة، والمشهود في بلدان الرّبيع العربي، اليوم، خير دليل على ما نقول، فقد أصبحت صناعة الإشاعة تجارة نافقة في تلك البلدان، فاستغلّ بعضهم حالات الانفلات الإعلامي، واتّساع المجال لحرّية التّعبير، ليتفرّغ لإنتاج الإشاعة التي غلبت على المصادر الرّسميّة للمعلومة، وقامت بديلاً عن الخبر الموثّق، فتنافس المتنافسون في ابتكار الإشاعات، قصد التّشريع للذّات وتقويض الآخر، وقصد تشويه المخالف وتقديم الأنا في سربال ملائكيّ. فتمّ توظيف التعدديّة الإعلاميّة، لبعث منابر تعبيريّة، وظيفتها الإقصاء والتّخوين، وبثّ الشكّ، وأسباب التّدافع الطّائفي والتّطاحن الأيديولوجي. فتراجع مطلب دمقرطة الإعلام، ليطفو على السّطح مطلب أدلجة الخطاب الإعلامي، والتّلاعب بالخبر لتحقيق أهداف حزبويّة أو طبقيّة ضيّقة. وأصبح من العسير على المتلقّي تمييز الخبر اليقين من الخبر الزائف في ظلّ ازدهار سوق الإشاعة العابرة للزّمان والمكان، والتي تجد في نفوس النّاس الخائفين من المستقبل أرضيّة خصبة للنموّ والانتشار، فتسري في الجمهور سريان النّار في الهشيم، وتؤثّر، أيّما تأثير، في سلوك النّاس وأفكارهم وأفعالهم ومواقفهم، بل تؤدّي إلى إرباك أداء مؤسّسات حيويّة، عليها قوام الدّول، وانتظام المجتمعات، مثل المؤسّسة الأمنيّة، أو المؤسّسة القضائيّة، أو المؤسّسة التربويّة، وذلك بسبب ما ترسله مصانع الإشاعة من أخبار زائفة، تساهم في تثبيط العزائم، والتّشويش على جهود الفرد والجماعة، في هذا الفضاء، أو ذاك. مما يؤدّي إلى حالة من الشكّ المرضيّ، والفوضى العارمة التي تعصف بهامش الثّقة بين الحاكم والمحكوم، وبين المواطن ومؤسّسات الدّولة.
ومعلوم أنّه من الصّعب بمكان السّيطرة على الإشاعة في عصر انتشار الوسائط الرقميّة، وشبكات التّواصل الاجتماعي، لكنّ ذلك لا يمنع من تذكير أصحاب القرار في الدّول العربيّة بضرورة تفعيل القوانين المنظّمة للعمل الإعلامي، وفرض الالتزام بميثاق المهنة، ومقتضيات نقل الخبر بطريقة موثّقة، قوامها الموضوعيّة والأمانة والنّزاهة والإيمان بأنّ الخبر مقدّس والتّعليق حرّ. وفي السّياق نفسه، فإنّه من المهمّ بمكان تأمين حقّ الإعلامي في النّفاذ إلى مصادر المعلومة، ومواكبة الحدث عن قرب، حتّى تتحقّق الإفادة، وتتراجع الإشاعة، وتعود للعربيّ الثّقة في السّلطة الرّابعة.