في ثقل جنسياتنا

09 ديسمبر 2014

تتذكر جنسيتك الأولى، تلك التي من وحل ودم ورصاص(Getty)

+ الخط -

تزن بعض جنسياتنا أطنانا، نحملها، فنشعرها ثقيلة تكسر ظهورنا، تفقأ أعين رغباتنا، تجتز أجنحتنا، وترهق أرواحنا، هذا حين لا تزهقها قهراً، وظلماً، وقمعاً، وقتلا. جنسيات ثقيلة ثقل السماء، تنزلنا إلى ما تحت الأرض السابعة، ثم تهيل فوقنا رمالاً تسعُ محيطاتٍ من العبث والهباء.

جنسيات، كاللبنانية، والعراقية، والفلسطينية، والسورية، واليمنية، والجزائرية، وسواها من هذا الصنف النادر الممتاز، لا تكتشف الضنك الحقيقي الذي يتسبّب به حملها، إلا حين يسعفك الحظ، بعد سنوات من الاغتراب والتشرّد والكفاح، باقتناء واحدة من تلك الجنسيات الناعمة، اللطيفة، المحببة، التي تكاد لا تشعر بها، بل إنها حتى، لخفّتها، تُنبت لك أجنحةً ترفعك عالياً لتحلّق بك فوق كل الحدود، فوق كل العقبات.

لدى وصولك إلى مطار أجنبي، مثلا، تشعر، أنت صاحب الجوازين والانتماءين، أنك أعلى مرتبة من أبناء جلدتك، وصنف آخر من البشر، حين تقسم اللافتة المعلقة فوق أمن المطار، الوافدين لتوّهم، إلى صفين: صفّ أول بجوازات "خفيفة، نظيفة"، تستقبلها  تحيات رجال الأمن وابتساماتهم، قبل أن تتطاير، كالريش، إلى مكان استلام الحقائب، وصفّ ثان يتكدس أفقياً، قلقاً، متعرّقاً، بانتظار أن يثبت للمرة المائة أنه يملك ما يكفي من المال، لتغطية مصاريف إقامته، حتى ولو نزل عند أهلٍ له، أنه لم يأت ليستقر بشكل غير شرعي، أنه ليس إرهابياً، وإن كان مسلماً، وليس مهرِّبا وإن كان مسيحياً، وأنه، في مطلق الأحوال، لا ينوي الإساءة، أو التخريب، أو الإخلال بالأمن.

هكذا تراك، وعن سابق عمد وتصميم، تتنصّل من ابن بلدك ولغتك الذي كان، قبل دقائق معدودة، جالساً في المقعد بجانبك، ذاك الذي تبادلت معه أطراف الحديث، شاطرته ساعات من الخبز والثرثرة والملح، وشكرته مراراً في سرّك، لأنه خفّف عنك خوفك من وقوع الطائرة بك. وكلما طال وقوفه أمام شبّاك رجل الأمن، ازددتَ بعداً عنه وتنصّلا، وربما انحزتَ حتى إلى رجل الأمن الأجنبي، فساورتك بشأن مواطنك الشكوك، ولمت نفسك على سذاجتك التي جعلتك تأمن له، فتخبره أشياء قد تنقلب عليك، الآن، فيما أنت لا تعرف عنه شيئاً، وإن عرفت، فما أدراك أنها غير مختلقة، وما هي نياته، ومن يكون؟ وبعد دقائق من جلد الذات، يجتاحك تسونامي من الندم العميق، فتؤنّب نفسك، وتعدها بالانغلاق تماماً في مرة مقبلة، وبعدم مخالطة أصحاب "تلك" الجنسيات، مهما يكن، وبالاستعاضة عنهم بمشاهدة فيلم، بإعداد طبقٍ ما، أو بقراءة كتاب.

وفي مكان استلام الحقائب، بعد أن انسحبت، من دون أن تجرؤ حتى على رميه بنظرة وداع، وبعد أن ظننتَ أنك نفدت بجلدك، تكتشف أنك لم تتخلّص بعدُ منه، إذ تراه مقبلاً نحوك، بفرح الناجي من كارثةٍ ما، بنشوة الفائز في امتحانٍ صعب، فينتابك حياء طويل، ممزوج بإحساس بالذنب وبالتفاهة، فلا تدري كيف تتصرّف وما تقول، إلى أن تبدأ تعرض عليه خدمات تعرف سلفاً أنه لن يقبلها، أو تطلق تمنيات بضرورة اللقاء مجدداً، أو بمعاودة الاتصال، ووعوداً أخرى مشابهة، تعرف سلفا أنها ستذهب أدراج الرياح.

وحين تغادر المطار إلى الوجهة التي تقصد، وبعد أن تركن حقيبتك في صندوق سيارة التاكسي، أو في زاوية الباص، تتهافت بحثاً عن جوازك الثاني، فلا تطمئن إلا حين تتأكد أنه ما يزال هنا، آمنا بين أشيائك، فتضمه إلى قلبك، وتتنفس بعمق، شاكراً الرب والقديسين والأولياء وحسن الحظ، أنه ما يزال هنا، حيا يبعط بين يديك، فهو البلسم الذي يداوي الجراح، وهو العصا السحرية التي تفتح الأبواب، وهو الغالي الذي رخصت من أجله أجمل سنوات صباك، وهو المال، والرسمال، والدرع الواقي ممّا أورثته إياك جنسيتك الأولى، تلك التي من وحل ودم ورصاص.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"