في سلخانة الاستشراق الإسرائيلي

23 ابريل 2015

مستوطنان إسرائيليان قرب قبر النبي يوسف في نابلس (11يونيو/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

يعربد التسطيح، وتسود الركاكة، وتعصف الضحالة بالمقارنة التي يعقدها رؤفين بيركو بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والحجاج بن يوسف الثقفي. فبيركو الذي يُنظر إليه في إسرائيل والغرب مستشرقاً أراد أن يلفت نظر الغرب إلى "العوائد الإيجابية" للاستثمار في دعم نظام السيسي، بالمحاججة بأن تاريخ الشرق أثبت أن الحكام الذي يعتمدون القمع الوحشي ضد شعوبهم هم فقط الذين يضمنون الاستقرار الذي يفضي، في النهاية، إلى تأمين مصالح الغرب. يحاول في كتاباته في صحيفة "يسرائيل هيوم"، بشكل بائس، أن يثبت أنه، بنظرة إلى الوراء، تبين أن "سيف الحجاج" وليست "شعرة معاوية" هو من ضمن الاستقرار في المنطقة حقبة طويلة. لو أن جمهور قراء بيركو يقتصر على الصهاينة في إسرائيل لما استدعى الأمر الاهتمام والملاحظة، فالحقائق لا تعني شيئاً لهؤلاء، حيث تعد المواقف المسبقة خلفية الأحكام على العربي. لكن مراكز تفكير ووسائل إعلام كثيرة في الغرب تبدي اهتماماً بمعرفة وجهة نظر بيركو، باعتباره مستشرقاً، في كل ما يتعلق بشؤون المنطقة. وأحياناً، تستضيفه وسائل إعلام ناطقة بالعربية ليدلي بدلوه. ولم تحاول أيٌّ من المؤسسات البحثية والإعلامية التي تحرص على استضافة بيركو أن تتعرف على الخلفية المهنية التي أهلته ليكون "مستشرقا".

لا تتأثر مقارباته للشرق وقضاياه، بشكل رئيس، بدراسته الدين الإسلامي وتاريخ الشرق والثقافة العربية، بقدر تأثرها بخبرات كان مطالباً باكتسابها، عندما عمل عقدين ضابطاً في وحدة "العملاء والأسرى" في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان"، والتي يطلق عليها "الوحدة 504". وهذه تتخصص في تجنيد العملاء في صفوف العرب، والتحقيق مع المقاتلين العرب الذين يأسرهم الجيش في حملاته وحروبه. وقد تم إعداد بيركو، وزملائه، ليملكوا الأدوات التي تؤهلهم لإقناع ضعاف النفوس من العرب بقبول العمل مخبرين، ودفع الأسرى الذين يقعون في أيدي جيش الاحتلال لتقديم اعترافات تحت الإكراه والتعذيب الوحشي. كان بيركو زميلاً لدورون زهافي، الملقب "كابتين جورج الرهيب" الذي كان يحرص على اغتصاب الأسرى العرب، لدفعهم إلى تقديم اعترافات بشكل سريع، كما أكد القضاء الإسرائيلي العام الماضي. من هنا، تبلور عالم بيركو المعرفي والسيكولوجي عن العرب، بشكل أساس، داخل سلخانات التعذيب وأقبية التحقيق في سجون الاحتلال. لا يعد بيركو بدعاً من "المستشرقين" الصهاينة، فكثيرون من هؤلاء كانت خلفياتهم المهنية العمل في أحد الأجهزة الاستخبارية الرئيسة: الموساد، أمان، الشاباك. وإذا كان إدوارد سعيد قد عرّف الاستشراق بأنه "نوع من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة حكم الغرب للشرق"، فإن الاستشراق الصهيوني يمثل التجسيد الأكثر فظاظة لهذا المفهوم. فاستناداً إلى دراسات الاستشراق واستنتاجاتها، تم تشكيل وحدات المستعربين التي عملت ضد الفلسطينيين، منذ أوساط الثلاثينيات القرن الماضي، وأسهمت في إعداد خطة "دالت" التي تم بها تهجير مئات آلاف الفلسطينيين، وتطور عمل المستعربين بعد ذلك، لتتولى وحداتهم تنفيذ عمليات الاغتيال ضد قادة المقاومة الفلسطينية ونشطائها. لا يتردد المستشرقون الصهاينة في لي أعناق النصوص، والولوج إلى نتائج غير ذات مصداقية، من أجل تشويه الإسلام على نحو لم يجرؤ عليه أحد قبلهم. فالمستشرق إيلي بن بورات يستعرض آيات من سورة المائدة، لكي يدلل على أن القرآن يؤسس لصراع الحضارات، بالتحريض على محاربة غير المؤمنين به. ويشكك إيلي عيزري في أصالة النصوص القرآنية، في بحث تناول "الناسخ والمنسوخ في القرآن"، لكي يصل، في النهاية، إلى استنتاج مفاده بأن الإسلام يعتمد "استراتيجية واضحة للتخلص من النصوص التي يراها إشكالية. إن خطورة ما يقدمه المستشرقون الصهاينة تكمن في أن الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، منح هؤلاء منابر بحثية وإعلامية، لتسويق ما يلفظونه من لغو وهذيان، وهو ما يسهم في تشويه صورة الإسلام لدى الغرب.

تحول المستشرقون الصهاينة إلى ضيوف رئيسيين في المؤتمرات والمنتديات التي تنظمها مراكز التفكير الأميركية. لكن، لا شك في أن أكثر ما يثير حماس المستشرقين الصهاينة هو محاولة إقناع الغرب بدعم الثورات المضادة في العالم العربي، بكل ما أوتي من قوة، بالتحذير من خطورة دمقرطة العالم العربي. ويكفي المرء أن يطلع على ما ينشره "مركز يروشليم لدراسات المجتمع والدولة" الذي يديره دوري غولد، كبير المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، والذي يستكتب بعض صغار الكتبة ممن يسمون أنفسهم مستشرقين، ويخرج هؤلاء عن طورهم في محاولة إقناع الغرب بدعم النظم الديكتاتورية في العالم العربي. وتقتصر الأوراق التي يعدها تسفي مزال، السفير الأسبق لإسرائيل في القاهرة، وهو من الباحثين في المركز، على إبراز العوائد "الإيجابية الهائلة" التي سيكسبها الغرب وإسرائيل، في حال نجح نظام عبد الفتاح السيسي في البقاء، وتحذيره من التداعيات الكارثية لفشله على المصالح الغربية والإسرائيلية. لا يكتفي هؤلاء المستشرقون بتقديم رؤى فضفاضة حول دعم الثورات المضادة وتمكينها في العالم العربي، بل إنهم يقدمون مقترحات تفصيلية لدعم هذه الثورات.

هناك حاجة لتحرك عربي وإسلامي جاد لمواجهة غثاء الأدبيات الاستشراقية الإسرائيلية، والتصدي لها، وفضح ركاكتها، والتدليل على عدم تماسكها لإفشال الحرب الهادفة إلى تشويه الإسلام، واستنفار الغرب لدعم نظم الاستبداد. وفي المقابل، هناك حاجة ماسة للفت نظر العالم إلى خطورة الخطاب العنصري والفاشي السائد في إسرائيل، والمستند للتراث الديني اليهودي تجاه الفلسطينيين والعرب. ولا حاجة، هنا، للإشارة إلى المقال الذي نشره رئيس الكنيست الأسبق، أبراهام بورغ، وعدّ فيه الفتاوى التي يصدرها الحاخامات بأنها أكبر مصدر لصراع الحضارات في المنطقة.