04 نوفمبر 2024
في صورة الديكتاتور العائد
كمشهد الدبابة الأميركية التي وقفت على جسر بغداد، بعد دخول قوات التحالف إليها واحتلالها سنة 2003، حاملة رسالة تقول إن هذه القوات انتصرت على القوات العراقية، واستتب لها الأمر هناك، تبقى صورة جمال حسني مبارك، وهو خارج من سجنه، مرتدياً ثوب السجن الذي كان يظهر فيه في أثناء المحاكمات، متوجهاً ربما إلى المحكمة، أو إلى قضاء فترة التنفس في الخارج، تبقى ماثلة في الذهن، حاملة رسائل كثيرة، يتعذر إحصاؤها. يظهر في الصورة ثلاثة من ضباط الشرطة، كانوا واقفين لحظة خروجه من الباب، وهم يؤدون التحية العسكرية له، بكل الاحترام المترافق مع الخشية التي قلما يدخلها سجين في قلوب سجانيه. خشية ليس لها سبب سوى أنهم يعرفون أن هذا الرجل وعائلته هم القابضون الحقيقيون على الحكم في مصر بعد الثورة، على الرغم من وجودهم في السجن، وعلى الرغم من تغير وجوه المسؤولين في الحكم.
يثير استغرابك سماح الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السياسي، الذي عَبَّدَ طريقه إلى تثبيت سلطته بدماء المتظاهرين السلميين والمعارضين، أو تغاضيه عن إطلاق سراح منافس محتمل له. المنافس الذي بقي ماثلاً في لاوعي مصريين كثيرين، ولفترة طويلة، على أنه هو الرئيس المقبل لحكم بلدهم، وارثاً الكرسي عن أبيه. وهو عكس ما درج عليه جميع الرؤساء الذين وصلوا إلى السلطة، بطرق مشكوك بشرعيتها، في مصر وفي غيرها، غير أن الواقع يفسر لك هذا الأمر، عندما ترى أن مبارك وعائلته أُعيدَ الاعتبار إليهم شيئاً فشيئاً، وجرى تحسين صورتهم في عيون المصريين في أثناء حكم السيسي، بحصر محاكماتهم بجرائم واهية، لا
تقارن بما اقترفوه، عبر تاريخ حكمهم الطويل، من إلحاق مصر واقتصادها بالدول الكبرى، وتأخير تطورها عن الدول التي كانت تماشيها في التطور، منذ عشرات السنين. علاوة على سجل إجرامي طويل، حافل بقمع الحريات وزج المعارضين في السجون، وبالفساد وبإفقار أبناء الشعب المصري وتجهيلهم.
ويمكن من خلال النظر إلى فترة حكم العسكر، بعد انتصار الثورة، ثم بعد انقلاب السيسي الذي أطاح رئيساً منتخباً، أن نرى أن شبح مبارك كان دائماً مخيماً على البلاد، على الرغم من وجوده وأبنائه في السجن. ففي حين أن السيسي، ومنذ الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، قد زج في المعتقلات ما يفوق عن 41.000 شخص من معارضي حكمه، ومنهم نشطاء في ثورة 25 يناير، أعاد كثيرين ممن كانوا ضمن دائرة حكم مبارك الضيقة، وتبوأوا، الآن، مناصب سياسية وأمنية عليا، ومنهم من يدير حملات قمع المعارضين هذه الأيام. ومن هؤلاء من اغتنى، في عهد مبارك، عبر الرشاوى والصفقات المشبوهة، ويجمهم حلف مقدس مع جنرالات الجيش الحاكمين، والذين يعتبرون، في مجموعهم، رمزاً للدولة العميقة. وقد اتبع السيسي وفريقه سياسات اقتصادية وأمنية، هي من السوء بحيث جعلت مصريين كثيرين يحنون إلى فترة ما قبل الثورة. وهو ما كان واضحاً في الصمت الذي رافق إطلاق جمال وعلاء مبارك من السجن، ما خلا احتجاجات قليلة قام بها عدد من نشطاء الثورة، وواجهتهم قوات الأمن بالقمع كالعادة. تلك السياسات التي يمكن التخمين أنه قصد اتباعها، لكي تؤدي إلى نتيجة الترحم والحنين هذه، وربما للتوطئة لعودة فريق مبارك كاملاً إلى سدة الحكم.
ويبدو السيسي أمينا لنهج حسني مبارك الاقتصادي. حيث اتبع سياسات اقتصادية شبيهة بالتي كان يتبعها مبارك في إفقار الشعب وزيادة شقائه. بل يمكن القول إن السيسي بَزَّه، حين نعلم أن أسعار الوقود زادت في عهده، ووصلت إلى قيمٍ لم يكن أشد المتشائمين في عهد مبارك يتصور الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، أصابت نسبة الزيادة التي تراوحت بين 40% و70%، والتي طرأت على المازوت والبنزين والغاز والكهرباء، الناس باليأس التام، بعدما زرعت الثورة فيهم آمالاً بتغيير واقعهم المعيشي نحو الأحسن، إن لم يكونوا قد أملوا بانقلاب في هذا المجال، يحدث قطعاً مع تاريخ البؤس الذي عانوه. فزيادة أسعار الوقود بهذه النسب ينعكس زيادة على بقية السلع في ظل ثبات الأجور.
وكغيره من الحكام الديكتاتوريين الذين يأبون القدوم إلى السلطة، وتثبيت أقدامهم، إلا بعد الدوس على جثث البشر، والسير فوق دمائهم نحو الكرسي، سجل الرئيس السيسي وفريقه الانقلابي "أسوأ حادث دموي في تاريخ مصر الحديث"، حسب وصف جاء في تقرير أصدرته منظمة هيومان رايتس ووتش في يونيو/حزيران 2014 لمذبحة الحرس الجمهوري التي حصلت في الثامن من يوليو/تموز 2013، وراح ضحيتها 51 شخصاً من المعتصمين المعارضين للانقلاب. وكانت الحادثة فاتحة مذابح أخرى، كالتي رافقت فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، وغيرها من المذابح المستمرة، والتي نشهدها هذه الأيام. علاوة على أحكام الإعدام والمؤبد التي يستند، في إصدارها، قضاة الانقلاب على "قوانين استبدادية سنتها مصر بمعدل لا مثيل له منذ 60 عاماً"، وفقاً لخبراء قانونيين من أربع مؤسسات قانونية، ذات سمعة طيبة، استمزجت آراءهم صحيفة الغارديان البريطانية، وأصدرتها في تقرير، تضمن لمحة عن هذه القوانين، في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
يبقى أن نقول إن إطلاق سراح جمال وعلاء مبارك، قبل أيام من ذكرى ثورة 25 يناير ضد والدهم، يحمل في طياته رمزيات بليغة، بغض النظر عن الإهانة التي حملها لضحايا عائلة مبارك، ليس أقلها أن الثورة التي كان لها الفضل في إيصال الحكام الحاليين إلى السلطة قد وضعوها وراءهم. وأن القادم من الأيام سيحمل عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الثورة، وربما بالأشخاص عينهم، إن لم يحاول ناشطوها توظيف الضعف السياسي لدى الفريق الحاكم، والإحباط في الشارع نتيجة السياسات الاقتصادية، ليعيدوا الناس إلى الشارع، ويعيدوا إلى الثورة ناسها.
يثير استغرابك سماح الرئيس المصري الحالي، عبد الفتاح السياسي، الذي عَبَّدَ طريقه إلى تثبيت سلطته بدماء المتظاهرين السلميين والمعارضين، أو تغاضيه عن إطلاق سراح منافس محتمل له. المنافس الذي بقي ماثلاً في لاوعي مصريين كثيرين، ولفترة طويلة، على أنه هو الرئيس المقبل لحكم بلدهم، وارثاً الكرسي عن أبيه. وهو عكس ما درج عليه جميع الرؤساء الذين وصلوا إلى السلطة، بطرق مشكوك بشرعيتها، في مصر وفي غيرها، غير أن الواقع يفسر لك هذا الأمر، عندما ترى أن مبارك وعائلته أُعيدَ الاعتبار إليهم شيئاً فشيئاً، وجرى تحسين صورتهم في عيون المصريين في أثناء حكم السيسي، بحصر محاكماتهم بجرائم واهية، لا
ويمكن من خلال النظر إلى فترة حكم العسكر، بعد انتصار الثورة، ثم بعد انقلاب السيسي الذي أطاح رئيساً منتخباً، أن نرى أن شبح مبارك كان دائماً مخيماً على البلاد، على الرغم من وجوده وأبنائه في السجن. ففي حين أن السيسي، ومنذ الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، قد زج في المعتقلات ما يفوق عن 41.000 شخص من معارضي حكمه، ومنهم نشطاء في ثورة 25 يناير، أعاد كثيرين ممن كانوا ضمن دائرة حكم مبارك الضيقة، وتبوأوا، الآن، مناصب سياسية وأمنية عليا، ومنهم من يدير حملات قمع المعارضين هذه الأيام. ومن هؤلاء من اغتنى، في عهد مبارك، عبر الرشاوى والصفقات المشبوهة، ويجمهم حلف مقدس مع جنرالات الجيش الحاكمين، والذين يعتبرون، في مجموعهم، رمزاً للدولة العميقة. وقد اتبع السيسي وفريقه سياسات اقتصادية وأمنية، هي من السوء بحيث جعلت مصريين كثيرين يحنون إلى فترة ما قبل الثورة. وهو ما كان واضحاً في الصمت الذي رافق إطلاق جمال وعلاء مبارك من السجن، ما خلا احتجاجات قليلة قام بها عدد من نشطاء الثورة، وواجهتهم قوات الأمن بالقمع كالعادة. تلك السياسات التي يمكن التخمين أنه قصد اتباعها، لكي تؤدي إلى نتيجة الترحم والحنين هذه، وربما للتوطئة لعودة فريق مبارك كاملاً إلى سدة الحكم.
ويبدو السيسي أمينا لنهج حسني مبارك الاقتصادي. حيث اتبع سياسات اقتصادية شبيهة بالتي كان يتبعها مبارك في إفقار الشعب وزيادة شقائه. بل يمكن القول إن السيسي بَزَّه، حين نعلم أن أسعار الوقود زادت في عهده، ووصلت إلى قيمٍ لم يكن أشد المتشائمين في عهد مبارك يتصور الوصول إليها. فعلى سبيل المثال، أصابت نسبة الزيادة التي تراوحت بين 40% و70%، والتي طرأت على المازوت والبنزين والغاز والكهرباء، الناس باليأس التام، بعدما زرعت الثورة فيهم آمالاً بتغيير واقعهم المعيشي نحو الأحسن، إن لم يكونوا قد أملوا بانقلاب في هذا المجال، يحدث قطعاً مع تاريخ البؤس الذي عانوه. فزيادة أسعار الوقود بهذه النسب ينعكس زيادة على بقية السلع في ظل ثبات الأجور.
وكغيره من الحكام الديكتاتوريين الذين يأبون القدوم إلى السلطة، وتثبيت أقدامهم، إلا بعد الدوس على جثث البشر، والسير فوق دمائهم نحو الكرسي، سجل الرئيس السيسي وفريقه الانقلابي "أسوأ حادث دموي في تاريخ مصر الحديث"، حسب وصف جاء في تقرير أصدرته منظمة هيومان رايتس ووتش في يونيو/حزيران 2014 لمذبحة الحرس الجمهوري التي حصلت في الثامن من يوليو/تموز 2013، وراح ضحيتها 51 شخصاً من المعتصمين المعارضين للانقلاب. وكانت الحادثة فاتحة مذابح أخرى، كالتي رافقت فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، وغيرها من المذابح المستمرة، والتي نشهدها هذه الأيام. علاوة على أحكام الإعدام والمؤبد التي يستند، في إصدارها، قضاة الانقلاب على "قوانين استبدادية سنتها مصر بمعدل لا مثيل له منذ 60 عاماً"، وفقاً لخبراء قانونيين من أربع مؤسسات قانونية، ذات سمعة طيبة، استمزجت آراءهم صحيفة الغارديان البريطانية، وأصدرتها في تقرير، تضمن لمحة عن هذه القوانين، في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
يبقى أن نقول إن إطلاق سراح جمال وعلاء مبارك، قبل أيام من ذكرى ثورة 25 يناير ضد والدهم، يحمل في طياته رمزيات بليغة، بغض النظر عن الإهانة التي حملها لضحايا عائلة مبارك، ليس أقلها أن الثورة التي كان لها الفضل في إيصال الحكام الحاليين إلى السلطة قد وضعوها وراءهم. وأن القادم من الأيام سيحمل عودة إلى ما كانت عليه الأمور قبل الثورة، وربما بالأشخاص عينهم، إن لم يحاول ناشطوها توظيف الضعف السياسي لدى الفريق الحاكم، والإحباط في الشارع نتيجة السياسات الاقتصادية، ليعيدوا الناس إلى الشارع، ويعيدوا إلى الثورة ناسها.