02 ابريل 2021
في صورة المثقف العربي ودوره
أشبع درساً وتمحيصاً ونقداً وتفنيداً موضوع دور المثقف في المجتمع، وعلى مستوى الأمة؛ وقيل الكثير.. الكثير عن هذا الدور، خصوصاً في الملمّات الصعبة والتاريخية التي تمرّ بها الأمم والشعوب، كحال أمتنا العربية اليوم، حيث نجدها تتخبّط في أسوأ مرحلة من مراحل فوضى السياسات والاحترابات الأهلية والتصدّع الجغرافي والفوات الغيبي.
ولأن أزمة المثقف العربي مرتبطةٌ بأزمة مجتمعه، في أغلب صورها وحالاتها، ولأن المجتمعات العربية هي على ما هي عليه من بؤسٍ ويأسٍ وتردّ وإخفاقٍ وتشظّ مفتوحٍ على الصعد كافة، فلقد استقال، بحسب بعضهم، هذا المثقف العربي من نفسه، ومن دوره الطليعي، لأن حال الإخفاق والتشظّي واليأس انتقلت إليه، فتحوّل معها، إما إلى متماهٍ مع المرض العربي العام، أو مشاركٍ في لعبة التناقضات الصارخة على الأرض: طائفياً ومذهبياً وقبائلياً وعشائرياً، أو ران عليه صمتٌ ثقيل، فاكتفى بآلام تأملاته الذاتية الحزينة، وفضّل الهرب من المواجهة إلى مختلف المنافي، الداخلية منها والخارجية.. لا فرق.
ولذلك، بتنا نسمع فيه، وحوله، عبارات مثل "نهاية المثقف"، "موت المثقف"، "أوهام المثقف"، "الكائن التبريري الذي لا لزوم له"؛ وكلها عبارات مستنسخةٌ عن أدبيات الخارج الغربي منذ الستينيات من القرن الفائت، اقتطعت اقتطاعاً من سياق أحوال وظروف مجتمعية وسياسية وثقافية وحضارية، مغايرة تماماً لأحوالنا وظروفنا وثقافتنا.
أكثر من ذلك، هي، في واقع الأمر، تعابير "ملطوشة" بحرفيتها عن هربرت ماركوز وجاك دريدا وريجيس دوبريه وهنري جون تيرنر وجسي بيرسي كرافت... إلخ؛ وكأن من يستخدم مثل هذه العبارات، وغيرها من جنسها، عندنا عرباً، يريد أن "ينتقم" أيضاً من أطروحات مفكرين عرب راسخين، كانوا قد نظّروا في العمق لدور المثقف القومي إزاء مجتمعه وأمته العربية: نجيب عازوري، جورج أنطونيوس، عبد الرحمن الشهبندر، زكي الأرسوزي، محمد عزة دروزة، نبيه أمين فارس، رئيف خوري، عبدالله النديم، قسطنطين زريق، عبد العزيز الدوري وغيرهم.. وغيرهم.
والسؤال الأساس الذي طرحه ويطرحه بعضهم الآن: أليس في "موت المثقف" شيء من "موت المجتمع"؟ أليس في الدعوة إلى "انتهاء المثقف" دعوة موازية إلى مجتمع جديد، لا دور للمثقف فيه؟ وهل يمكن لمجتمعٍ أن ينهض، أصلاً، من دون مثقّفيه ومفكّريه الكبار؟
من جهة أخرى، ثمّة من يرى أن المثقف لم يمت ولن يموت؛ وهو جندي المراحل كلها، خصوصاً المقبل منها، انطلاقاً من مستنقع المرحلة الراهنة. قد ينكفئ هذا المثقف هنا، أو يتراجع هناك، لكنه لن يموت، ولن يغيب دوره أو يبور.
ومن يريد إعلان موت المثقف أو ارتداده عن أداء دوره، يريد عملياً إعلان موت الثقافة؛ وبالتالي موت الهويّات المتميزة للشعوب، لتسود معطيات عولمةٍ آخذةٍ بإزالة هويات بعينها، وثقافاتٍ بأكملها، لمصلحة ثقافةٍ واحدة، هي ثقافة الغالب على مستوى كوني.
وثمّة من يفصل بين دور المثقف (أو المفكر) منتجاً للمعرفة ودوره في السياسة وعالمها، ويدعو المثقف، بالتالي، إلى التفرغ لشؤونه، وترك الآخرين لشؤونهم. وأنه في مكانة المثقف، في نهاية الأمر، أن يؤدي وظيفةً معرفيةً تفيد منها السياسة، من دون أن يكون ملتزماً موقفاً حزبياً أو سلطوياً، ومن دون أن يرسم لنفسه وظيفة إبعاد المعرفة عن السياسة.
وفي رأي هؤلاء أن وظيفة إنتاج المعرفة ليست انعزالاً أو انسحاباً من طرف المثقف أو المفكر، بل هي نفسها التزام بالعقل والإبداع والكفاح ضد الجهل والخرافة والاستبداد وخدمة الوطن والأمة، من خلال بلورة "تراكم معرفي"، هو الشرط التحتي لكسب معركة التطور والانتماء إلى العصر.
فوق هذا وذاك، ثمّة من يرى، أن دور المثقف التقليدي، من حيث كونه وحده من يمتلك المعرفة، هو الذي "انتهى" أو ضمُر أو تراجع، وأن علينا الآن بناء أدوات معرفية وثقافية مختلفة عن التي كان يستخدمها نظام الفهم السابق؛ وأنه، بمقتضى ذلك، لا ضير من أن تتّجه الشرائح الثقافية العربية، على تبايناتها، (خصوصاً التقليدية منها) إلى "تعلّم فن التفكير الجديد" و"احترافه"، خصوصاً في ظل ضعف البنى الثقافية لمجتمعاتنا، وعدم قدرتها على مواكبة المتغيرات الحادثة في مشهد الثقافة العالمية.
باختصار، ثمّة دعوة إلى إزاحة الصورة الوظيفية التقليدية للمثقف، وتكوين صورة جديدة له قائمة على حراك اجتماعي شبه عريض، يجد نفسه خلالها متجهاً نحو آليات "التثقف المغاير"، وشحذ الذهن بالمعرفة الجديدة والمضاعفة.
وإذا كنا نقرّ بأن المثقف العربي الجدّي، والمعني في الصميم بقضايا أمته، بات على المحك اليوم، خصوصاً لجهة فقدانه دوره السابق، وضعف تأثيره في عالم متغيّر بسرعة قياسية، باتت فيه التقنية المعلوماتية هي المسيطرة، وهي التي تُفضي معه أو من دونه، إلى تسطيح الوعي وتهميش الثقافة وتسييد "قيم" السوق وتسليع كل شيء. إذا كنا نقر بذلك كله، إلا أننا، في المقابل، لا يمكن ألبتة أن نُهوّن من شأن المثقف العربي الجدّي ودوره.. "تقليدياً" كان أم غير تقليدي، فهو يظلّ صوت الأمة ولسان حالها والناطق باسم مصالحها والغيور على حاضرها ومستقبلها واحترام تراثها، وهو بالتأكيد لا يكتفي بدور المتفرج، حتى وإن بدا كذلك، كما أنه ليس متشائماً ولا متبرّماً ولا يائساً، حتى وإن بدا كذلك أيضاً. إنه، بجديته وشجاعته وجذريته في قلب درس الحدث والاستفادة العميقة من متوالياته، مهما كانت مؤلمة ومستعصية، وكل ذلك كرمى التغيير والتطوير والتنوير. لأن المثقف الجدّي، المثقف الحقيقي، ليس ملك نفسه، وإنما هو ملك مجتمعه وأمته، بل ملك الإنسانية جمعاء.
بلى، وبعيداً من تمارين العبث الكلامي، يستشعر المثقف العربي الحقيقي وجوده في مجتمع الأزمة - الجائحة اليوم. إنه يتحمّل المسؤولية الكبرى، ولكن على طريقته وبأسلوبه، ولن يكون، في النتيجة، إلاّ فاعلاً ومتفاعلاً مع مجتمعه وأمته، بعيداً من الشعارية والاستعراض ورمي التنظيرات لذاتها. فما يجري اليوم لمجتمعاتنا العربية أخطر وأعمق مما نتصوره بكثير، وهو يستتبع، بالتالي، قراءات وممارسات غير مستهلكة وغير مسبوقة. ولا يفيد، ولن يفيد في الأمر شيئاً، أي خطاب تنظيري أو إيديولوجي مرسل عن المثقف و"موته" أو "نهايته"، عندنا كما عند غيرنا؛ لأن صرخة موت المثقف لا تنطلق، في الحقيقة، إلا من مثقف ميت.
ولأن أزمة المثقف العربي مرتبطةٌ بأزمة مجتمعه، في أغلب صورها وحالاتها، ولأن المجتمعات العربية هي على ما هي عليه من بؤسٍ ويأسٍ وتردّ وإخفاقٍ وتشظّ مفتوحٍ على الصعد كافة، فلقد استقال، بحسب بعضهم، هذا المثقف العربي من نفسه، ومن دوره الطليعي، لأن حال الإخفاق والتشظّي واليأس انتقلت إليه، فتحوّل معها، إما إلى متماهٍ مع المرض العربي العام، أو مشاركٍ في لعبة التناقضات الصارخة على الأرض: طائفياً ومذهبياً وقبائلياً وعشائرياً، أو ران عليه صمتٌ ثقيل، فاكتفى بآلام تأملاته الذاتية الحزينة، وفضّل الهرب من المواجهة إلى مختلف المنافي، الداخلية منها والخارجية.. لا فرق.
ولذلك، بتنا نسمع فيه، وحوله، عبارات مثل "نهاية المثقف"، "موت المثقف"، "أوهام المثقف"، "الكائن التبريري الذي لا لزوم له"؛ وكلها عبارات مستنسخةٌ عن أدبيات الخارج الغربي منذ الستينيات من القرن الفائت، اقتطعت اقتطاعاً من سياق أحوال وظروف مجتمعية وسياسية وثقافية وحضارية، مغايرة تماماً لأحوالنا وظروفنا وثقافتنا.
أكثر من ذلك، هي، في واقع الأمر، تعابير "ملطوشة" بحرفيتها عن هربرت ماركوز وجاك دريدا وريجيس دوبريه وهنري جون تيرنر وجسي بيرسي كرافت... إلخ؛ وكأن من يستخدم مثل هذه العبارات، وغيرها من جنسها، عندنا عرباً، يريد أن "ينتقم" أيضاً من أطروحات مفكرين عرب راسخين، كانوا قد نظّروا في العمق لدور المثقف القومي إزاء مجتمعه وأمته العربية: نجيب عازوري، جورج أنطونيوس، عبد الرحمن الشهبندر، زكي الأرسوزي، محمد عزة دروزة، نبيه أمين فارس، رئيف خوري، عبدالله النديم، قسطنطين زريق، عبد العزيز الدوري وغيرهم.. وغيرهم.
والسؤال الأساس الذي طرحه ويطرحه بعضهم الآن: أليس في "موت المثقف" شيء من "موت المجتمع"؟ أليس في الدعوة إلى "انتهاء المثقف" دعوة موازية إلى مجتمع جديد، لا دور للمثقف فيه؟ وهل يمكن لمجتمعٍ أن ينهض، أصلاً، من دون مثقّفيه ومفكّريه الكبار؟
من جهة أخرى، ثمّة من يرى أن المثقف لم يمت ولن يموت؛ وهو جندي المراحل كلها، خصوصاً المقبل منها، انطلاقاً من مستنقع المرحلة الراهنة. قد ينكفئ هذا المثقف هنا، أو يتراجع هناك، لكنه لن يموت، ولن يغيب دوره أو يبور.
ومن يريد إعلان موت المثقف أو ارتداده عن أداء دوره، يريد عملياً إعلان موت الثقافة؛ وبالتالي موت الهويّات المتميزة للشعوب، لتسود معطيات عولمةٍ آخذةٍ بإزالة هويات بعينها، وثقافاتٍ بأكملها، لمصلحة ثقافةٍ واحدة، هي ثقافة الغالب على مستوى كوني.
وثمّة من يفصل بين دور المثقف (أو المفكر) منتجاً للمعرفة ودوره في السياسة وعالمها، ويدعو المثقف، بالتالي، إلى التفرغ لشؤونه، وترك الآخرين لشؤونهم. وأنه في مكانة المثقف، في نهاية الأمر، أن يؤدي وظيفةً معرفيةً تفيد منها السياسة، من دون أن يكون ملتزماً موقفاً حزبياً أو سلطوياً، ومن دون أن يرسم لنفسه وظيفة إبعاد المعرفة عن السياسة.
وفي رأي هؤلاء أن وظيفة إنتاج المعرفة ليست انعزالاً أو انسحاباً من طرف المثقف أو المفكر، بل هي نفسها التزام بالعقل والإبداع والكفاح ضد الجهل والخرافة والاستبداد وخدمة الوطن والأمة، من خلال بلورة "تراكم معرفي"، هو الشرط التحتي لكسب معركة التطور والانتماء إلى العصر.
فوق هذا وذاك، ثمّة من يرى، أن دور المثقف التقليدي، من حيث كونه وحده من يمتلك المعرفة، هو الذي "انتهى" أو ضمُر أو تراجع، وأن علينا الآن بناء أدوات معرفية وثقافية مختلفة عن التي كان يستخدمها نظام الفهم السابق؛ وأنه، بمقتضى ذلك، لا ضير من أن تتّجه الشرائح الثقافية العربية، على تبايناتها، (خصوصاً التقليدية منها) إلى "تعلّم فن التفكير الجديد" و"احترافه"، خصوصاً في ظل ضعف البنى الثقافية لمجتمعاتنا، وعدم قدرتها على مواكبة المتغيرات الحادثة في مشهد الثقافة العالمية.
باختصار، ثمّة دعوة إلى إزاحة الصورة الوظيفية التقليدية للمثقف، وتكوين صورة جديدة له قائمة على حراك اجتماعي شبه عريض، يجد نفسه خلالها متجهاً نحو آليات "التثقف المغاير"، وشحذ الذهن بالمعرفة الجديدة والمضاعفة.
وإذا كنا نقرّ بأن المثقف العربي الجدّي، والمعني في الصميم بقضايا أمته، بات على المحك اليوم، خصوصاً لجهة فقدانه دوره السابق، وضعف تأثيره في عالم متغيّر بسرعة قياسية، باتت فيه التقنية المعلوماتية هي المسيطرة، وهي التي تُفضي معه أو من دونه، إلى تسطيح الوعي وتهميش الثقافة وتسييد "قيم" السوق وتسليع كل شيء. إذا كنا نقر بذلك كله، إلا أننا، في المقابل، لا يمكن ألبتة أن نُهوّن من شأن المثقف العربي الجدّي ودوره.. "تقليدياً" كان أم غير تقليدي، فهو يظلّ صوت الأمة ولسان حالها والناطق باسم مصالحها والغيور على حاضرها ومستقبلها واحترام تراثها، وهو بالتأكيد لا يكتفي بدور المتفرج، حتى وإن بدا كذلك، كما أنه ليس متشائماً ولا متبرّماً ولا يائساً، حتى وإن بدا كذلك أيضاً. إنه، بجديته وشجاعته وجذريته في قلب درس الحدث والاستفادة العميقة من متوالياته، مهما كانت مؤلمة ومستعصية، وكل ذلك كرمى التغيير والتطوير والتنوير. لأن المثقف الجدّي، المثقف الحقيقي، ليس ملك نفسه، وإنما هو ملك مجتمعه وأمته، بل ملك الإنسانية جمعاء.
بلى، وبعيداً من تمارين العبث الكلامي، يستشعر المثقف العربي الحقيقي وجوده في مجتمع الأزمة - الجائحة اليوم. إنه يتحمّل المسؤولية الكبرى، ولكن على طريقته وبأسلوبه، ولن يكون، في النتيجة، إلاّ فاعلاً ومتفاعلاً مع مجتمعه وأمته، بعيداً من الشعارية والاستعراض ورمي التنظيرات لذاتها. فما يجري اليوم لمجتمعاتنا العربية أخطر وأعمق مما نتصوره بكثير، وهو يستتبع، بالتالي، قراءات وممارسات غير مستهلكة وغير مسبوقة. ولا يفيد، ولن يفيد في الأمر شيئاً، أي خطاب تنظيري أو إيديولوجي مرسل عن المثقف و"موته" أو "نهايته"، عندنا كما عند غيرنا؛ لأن صرخة موت المثقف لا تنطلق، في الحقيقة، إلا من مثقف ميت.