في محبة المكترث الأكبر
أحدثكم، اليوم، عن الشرف والنزاهة والإخلاص والتعفف عن المكاسب الرخيصة. أحدثكم عن الاكتراث بهموم البلاد والناس، إلى حد المرارة والأسى. أحدثكم عن المثقف الحقيقي الزاهد في ما عند السلطان، الراضي بالقليل، القافل على نفسه وأهله وكتبه وكتابته. أحدثكم عن الكاتب الذي لا يحنجر الشعارات، ليخفي سوأة أفكاره ومواقفه، ولا تشغله الأضواء، ولا يضيع وقته في الهذر، ولا يكتب إلا الكتابة المشغولة بعناية وعناء، الكتابة التي تنفع الناس، ولا تخدعهم بآمال زائفة، الكتابة التي لا تخطف الأبصار، بل تُعمّر العقول وتؤنس القلوب وتعصف بالوجدان.
أحدثكم عن المكترث الأكبر، الأستاذ علاء الديب. لا تحتاج الكتابة عن علاء الديب إلى مناسبة، وعلى الرغم من ذلك، قلما يكتب أحد عن علاء الديب، ربما لأنه، حتى ونحن نحبه، يذكرنا دائما بأسوأ ما فينا، يذكّرنا بأننا لن نستطيع أبداً أن نمتلك قدرته الجبارة على التعالي عن الصغائر والترفع عن النقائص. أعترف أنني حاولت أن أكتب كثيراً عن علاء الديب وفشلت، وأظنني سأفشل هنا أيضا في تقديم كتابةٍ تليق به، وبمحبتي له. كنت قد وقعت في غرام العم علاء، بفضل بابه التاريخي "عصير الكتب" الذي ظل يحرره سنين طويلة في مجلة "صباح الخير" التي ظلت متوهجة حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، ثم تعرفت حين دخلت الجامعة على رواياته القصيرة، وبعدها تشرّفت بمعرفته شخصياً، عن طريق أخي حمدي عبد الرحيم، ليكون لي، منذ ذاك، أباً وصديقاً وشريك كتب وأنيس سهرات و"ضليلة" من صهد الحياة وسنداً وأستاذاً. ربما لم يغيرني حبه إلى الأفضل الذي تمناه لي، لكنني دائماً، وأنا أحاسب نفسي على ما جنت يداي، أتذكّر أنني كنت محظوظاً بحمد الله، لأنني حظيت بمحبة وصحبة أستاذ وأب ومثلٍ، لم يتلوث كما تلوث كثيرون غيره. رجل مبهج دافئ حكيم حنون، يستمع أكثر مما يتكلم، يقرأ أكثر مما يكتب، يفضل صحبة الأشجار على قعدات نافخي الكير، لا يدّعي العلم عمّال على بطال، بل يبحث بشغف عن كل كتاب جميل فاته، ليس لديه أي ادعاء بامتلاك عبقرية تميّزه عن غيره. متواضع وعازف عن المديح والثناء و"الدوشة"، وأظنه سيقاطعني فترة بعد أن يقرأ ما أكتبه، ليس لأنه لا يعلم صدق محبتي، بل لأنني ربما سأذكّر به أناساً ثقلاء الظل والروح، لم يكن يريد أن يسمع أصواتهم، لكنه أيضاً لن يكسر قلوبهم، فيصدّهم عنه تماماً، لأنه لم يعتد أن يمنع خير نفسه عن أحد.
للأسف الشديد، لم يحتفِ زماننا الرديء كما يجب بقيمة كبيرةٍ مثل علاء الديب. سنوات طويلة،
لم يهتم مسؤولو أجهزة الثقافة بطبع كتبه ورواياته ونشرها وتقديمها للناس كما يليق، ولا بجمع المجهود المذهل الذي بذله أربعة عقود في كتابة باب "عصير الكتب"، والذي لو تم جمع كل ما جاء فيه، لقدّم بانوراما مذهلة لأهم ما أنتجه العقل البشري، وصدر مترجما إلى العربية طوال الأربعين عاماً الماضية، (صدر عن دار الشروق كتاب وحيد في عام 2010 ضم بعض هذه المقالات المهمة، وقد تشرفت بدعوة أستاذي لأن أشارك في تقديم الكتاب مع الكاتب الكبير الراحل إبراهيم أصلان). للأسف، لا أذكر أنني رأيت عن عم علاء برنامجاً في التلفزيون المصري بقنواته كافة، يقدّم أفكاره للناس الذين عاش حياته مكترثاً بهم، وحتى عندما أصابته أزمة مرضية قاسية أول مرة نحو عام 2000، كان بحاجة إلى أن تتم كتابة نداءات ملحة في صحف ومجلات عديدة، لكي يتم علاجه على نفقة الدولة، وقد تعست والله الدولة التي يحتاج علاء الديب فيها إلى أكثر من ساعات، لكي تتخذ قراراً بعلاجه وحل أزماته، وشيله في حبابي عينيها، وتعست وخابت الدولة التي قام أحد مسؤوليها الثقافيين البلداء، بعد ذلك، بالاستغناء عن خدمات عم علاء مستشاراً أدبياً لجريدة القاهرة، الصادرة عن وزارة الثقافة، ما اضطره، في سنه المتقدمة، وفي ظروفه الصحية المضطربة، لأن يبذل مجهودا كبيراً كل أسبوع، ليكتب ويكسب رزقه، من دون أن يشكو لأحد، مواصلاً، باجتهاد، عمله النبيل الدؤوب في تعريف القراء بأهم ما يصدر من كتب وأجملها، وفي إبداء ملاحظاته الثاقبة للأجيال المختلفة من الكتّاب الذين ظلوا يعتبرون كتابته عن أعمالهم جائزة كبيرة تبهجهم، لأنهم يعلمون أن علاء الديب لا يكتب إلا عن الكتاب الذي يستحق تعريف القراء به.
يحسن إلى نفسه كثيراً من يقرأ أو يعيد قراءة قصص علاء الديب ورواياته (زهر الليمون ـ قمر على المستنقع ـ أطفال بلا دموع ـ عيون البنفسج ـ زهر الليمون ـ الشيخة ـ الحصان الأجوف ـ القاهرة ـ أيام وردية ـ المسافر الأبدي)، ولن أتحدث هنا عن أدب علاء الديب، فهو أكثر جمالاً وتركيباً من أن يكتب عنه فقط بمحبة وحماس، فقط سأخصص هذه السطور لاستعادة ذكر كتاب جميل، قرأته له فور صدوره عام 1995، كان من الكتب التي شكلت وعيي، ولم أستطع أبداً أن أنساها، لأنها كانت حافزاً دائماً لي، ولكثيرين ممن عرفت، على التمرد والحرص على الاستقلال والحرية، أتحدث عن كتاب (وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصري)، والذي أراد له عمنا علاء الديب أن يكون "شهادة مثقفٍ كان يحمل على أكتافه مسؤولية تغيير العالم، ويعتبر أن ذاكرته حياته، ومن أجلها يحارب آخر معاركه، ولا يقبل فيها الهزيمة". (ألسنا بحاجة إلى أن ندرك هذا المعنى المهم، ونحن نعيش في أزهى عصور التزييف والتزوير ومسخ الذاكرة).
من أبرز ما يحكيه العم علاء، في شهادته المهمة على أحوال بلادنا المحمية بالحرامية، ما قاله له صديق ذات يوم ممتدحاً: "أنت واحد من القلائل الذين يشعرون بنبض الحياة الثقافية في أوروبا"، يعلق العم علاء على ذلك بأنه ابتسم، لأن صديقه لم يدر أنه لمس جرحه العميق، فقد كان دائماً يشعر بأنه لم يحصل على أجر عمّا يكتبه لأن "الأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو أن يفرح، وهو يرى كلماته وقد تحولت مخلوقاتٍ على الورق، وكثيراً ما رأيت كلماتي تتحول إلى مخلوقات مشوهة، تسقط كأجنة ناقصة النمو". وبشجاعةٍ، يعترف عمنا علاء الديب بأنه لم يعد يعتبر العمل عطاء حقيقيا بسبب ذلك، ومنذ تلك اللحظة "كف الوجود عن أن يكون بالنسبة له فرحا ونعمة".
كان يمكن للأستاذ علاء الديب أن يقنع بلعب دوره الثقافي، ويشعر بالرضا الكامل عما قام بتقديمه، كما فعل كثيرون من أبناء جيله، قدموا للثقافة أقل بكثير مما قدمه، لكنه كان صادقاً مع نفسه ومع قارئه، بحيث اعترف أنه منذ هزيمة 67 وهو ميت لم يعش يوماً حقيقياً كاملاً، محاسباً نفسه عياناً بياناً على تجربة السفر إلى الخليج، وناقداً دور المثقف منذ ما بعد ثورة يوليو، ليقدم في كتابه تقييم جرّاح أمين لديه ضمير يقظ، لكنه أيضاً لا يستعين بطبيب تخدير، ليصل إلى عصب المرض الذي أصاب البلاد منذ قيام ثورة يوليو، والذي يصفه في قوله: "عندما تحول البطل الكبير إلى مؤسسة، وتحولت الثورة إلى نظام مشغولٍ بحماية نفسه، وتركت قضاياها الكبرى في أيدي وجوه صغيرة، لا أدري من أين تخرج، كأنها الأفاعي تلتف حول ساق شجرة الثورة الكبيرة... سنة بعد سنة، أراقب كيف يخلو المجتمع من حولي، من القنوات الطبيعية التي تشبه الشرايين التي تبقي المجتمع كائناً حياً، تصل بين البشر فيه، قيماً وممارسات وسلوكاً، تنتزع وتوضع بدلاً منها شرايين صناعية تصنعها أجهزة غامضة، يصنعها العجز عن التطبيق والانتهازية، وكل صور الفساد فيستحيل أن تصل المعاني الجديدة إلى قلوب الناس، ويستحيل أن يتحوّلوا إلى بشر متحرر حقاً من الجهل والفقر والمرض"، أو حين يقول، في موضع آخر، ملخصاً مأساة المثقف المصري في ظل دولة يوليو: ".. الازدواج قضيتي الشخصية. إنها ليست مسؤولية الدولة أو النظام، إنها قدري ومصيري، لقد كُبتت الحريات أوقاتاً طويلة، كذلك يفعل أي نظام وأي ثورة وأي دولة، ولكن التشوه الذي حدث كان مسؤولية المثقف، إنه يكمن في نكوصه وعجزه عن أداء دوره، لقد أمسكوا المثقف من يده التي تؤلمه، من انتهازيته وطموحه المريض".
انظر أيضا إلى ما يقوله في تذييله روايته البديعة "أيام وردية"، كاشفاً عن روحه الشفافة التي تكترث بآلام بسطاء الناس: "يحصل الواحد منا، نحن أبناء الطبقة المتوسطة، على أكثر من حقه، أنظر إلى الكادحين العارقين حولك، هل تعرف كم يقبضون في آخر النهار، وكيف ينامون، وكيف تنام أنت، فكّر في المزايا المجانية الجسيمة التي تحصل عليها بجهد قليل، أو بلا جهد على الإطلاق، شعور ساذج بالذنب مستمر، لكنه يكفي لكي يثير دائماً نقاشاً نظرياً، لم يحسم عن دور الطبقة المتوسطة في بلادنا، وماذا أخذت، وماذا أعطت، وعن مصيرها الذي انتهت إليه... وكيف تكون هي الوحيدة التي تملك القدرة على التواصل والتعبير، لكنها هي نفسها مضطربة متناقضة، تعطي إشارات متباينة، لا تزيد حياة الناس إلا ارتباكاً. على من يبحث عن هوية لمصر أو عن فن لمصر أن يبحث عنه خارج نطاق الطبقة المتوسطة، بكل الأشكال التي أخذتها سابقا وحتى الآن". ولا أعتقد أن أي قراءة لأحوال مصر الآن، بعد ثورة يناير، يمكن أن تتغافل عن خطورة دور الطبقة الوسطى، وعن أهمية تجاوز هيمنتها على المجتمع، إذا أراد هذا المجتمع أن يعيش، وهو ما شخّصه عم علاء، في روايته الصادرة عام 2002.
مرّة قلت ممازحاً لعم علاء: لو كنت ناشراً لأقلقت منامك كل ليلة، حتى تكتب جزءاً ثانياً من كتابك البديع، بشرط أن تسميه "وقفة تحت المنحدر"، صمت مكتفياً بابتسامة مريرة، ولمت نفسي بقوة، لأنني هزلت في موضع الجرح، ولم أكن أعلم يومها أن كتابه سيكتسب أهمية استثنائية، في هذه الأيام التي أصبحنا فيها في قاع منحدر، لم تكن وعورته وعبثيته وحقارته، تخطر لأحد على بال، جعله الله آخر المنحدرات، أو دعنا على الأقل نتمنى ذلك، قبل أن نصل إلى منحدر جديد.
(كتبت هذه السطور على فترات متفرقة، ضمن محاولاتٍ متعثرةٍ لتسجيل محبتي وامتناني وتقديري، للأستاذ الكبير علاء الديب، الذي يعاني الآن من أزمة صحية حرجة، أسألكم الدعاء له بالشفاء العاجل، ليعود سالماً معافى إلى أسرته ومحبيه وكتبه وقرائه).