كانت لدي مدونة، أو بالأحرى، كنت نشيطاً في مدونة أمتلكها، وفي يوم من الأيام، وجدت مستخدماً يدعى "إبليس" يكتب لي: "هل أنت من كان يكتب في سلسلة مجانين وصدرت له رواية باسم كذا؟".
كانت التدوينة في عام 2005، والرواية التي قصدها لم تكن سوى فصلين من روايتي "اليوم الثاني والعشرون" قد نشرا في أخبار الأدب، وقتها كنت قد كتبت "مجانين" بالاشتراك مع أصدقائي الأعزاء أحمد العايدي ومحمد فتحي ضمن آخرين، ثم مجموعة قصصية بعنوان "الضفة الأخرى" في عام 2000 و2003، لم تكن "إنجيل آدم" قد صدرت بعد، ولا "اليوم الثاني والعشرون".
كان "إبليس" أو "بيسو"، اسماً مستعاراً لأحمد ناجي، وكان يمارس عبره كل ما يمكنك تخيله من جنون وتمرد، بدأت في متابعة ناجي، وأُعجبت تماماً بما يدونه من خيال بديع على مدونته، كيف يتخيل استيفان روستي في العتبة مثلاً، ثم صرنا نتبادل الملحوظات الإلكترونية بين وقت وآخر.
كنت فخوراً بأن أعرف شابا قد قرأ مجانين وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكنت معجبا بأسلوبه في تفكيك كل شيء، أخيرا صدرت روايته الأولى "روجرز" التي أعجبتني وكتبت عنها، وبعدها بسنين طويلة، ذكرني أحمد العايدي أنني من حرضت ناجي على كتابة الرواية، جالسين في قهوتي المفضلة في وسط البلد.
كان ناجي متمرداً، يعامل أجواء القاهرة الجديدة عليه بمزيج معتاد من السكون والسلاطة، فيكون سليطا بشيء من الوداعة كإبليس، ثم وديعا بشيء من السلاطة كأحمد، مضت به الأيام وكالعادة في حالة كاتب موهوب شاب انقلبت الآية، أو لم تنقلب في الحقيقة، أحمد لم يعد وديعاً لا عبر الإنترنت ولا في الحياة الدنيا، لقد فقد الخفر والتردد المبدئي في مواجهة القاهرة، والحياة ككل، هذا الشاب المتمرد الوديع شبه البريء الذي أخبر أخته بفخر أنه قد قابلني أخيرا في القاهرة، قد زج بنفسه في عالم من أزحم عوالم القاهرة وأكثرها قسوة وبريقاً: الطريق ما بين وسط البلد والمهندسين، والبشر في ما بينهما.
ناجي، هذا الشاب الذي يمكن أن تلخص حكايته حكاية جماعة كاملة من شباب مصر تحت الثلاثين، العديد منهم قد تحولوا لروائيين وإعلاميين وكتاب، والذين تربوا في أحضان جماعة الإخوان المسلمين، أو في عائلات سلفية حتى، ثم صحوا، وأبصروا، ثم تمردوا.
كان ناجي أكثرهم تمرداً، ومن أكثرهم موهبة، كانت مسيرة ناجي القصيرة هي أكثر ما يماثل الانسلاخ، أو الولادة، المعجزة الحقيقية التي نشهدها كبشر، المعجزة الوحيدة الحقيقية التي نصنعها كبشر.
بدا لي أحياناً أن هذه الجماعة، في جيل أوساط العشرينيات وأواسط الثلاثينيات الآن في مصر، هي سبب للفرح وسبب للحذر، فإن كانت قد انسلخت من معاطف الجماعة، وهو كل أسباب الفرح، فهي حذرة تماما من العلمانية، وهو سبب للحذر، إلا أن ناجي قد استأثر بكل أسباب الفرح، ولم يدع سبباً لأي حذر، إلا من قبيل ما نشهده دائماً من تنافر شخصي، أو أيديولوجي بداخل الهم الإنساني الكبير.
كان ناجي، بكل استفزازاته، وبكل سلاطته، وبكل خفة إحكامه أحيانا، ونزقه، وصلفه الأبله، هو نصر حققه التطور في هذا البلد، شخص يمكن للدولة المصرية الحديثة أن تقول: لقد تربى في بيوتنا وتعلم في مدارسنا، ولم يكن جاهلاً، لم يتحول إلى يميني متحفظ، ولم يتحول - بالطبع - إلى إرهابي، هذا الفتى في التاسعة والعشرين، أو في الثلاثين، هو نتاج كل ما حاولنا تنميته في مثل هذا البلد.
وكيف تكافئ مصر هذا الشاب، هذه الجماعة التي تركت الجماعة من أجل فضاء أرحب وأوسع؟
تكافئها بسنتين من الحبس في مقابل الإبداع!
(مصر)