في مديح السوريات
بدأت النساء السوريات في أماكن لجوئهن بالتمرد، والخروج عن السلطة الذكورية المجتمعية العربية. ليس هذا عنواناً لمقال، هو حقيقة واقعة، تتناقلها تقارير صحفية مختلفة، ويتناقلها اللاجئون أنفسهم على صفحاتهم ومدوناتهم الشخصية، قصص كثيرة، تم تناقلها عن خروج النساء عن هذه السلطة الذكورية، بعد وصولهن إلى دول اللجوء واستقرارهن هناك. كثيرات طلبن الطلاق من أزواجهن، وعشن مع أولادهن. كثيرات رفضن العيش تحت كنف الأب المسيطر، أو الأخ الأكبر المتسلط. كثيرات قرّرن خلع الحجاب عن رؤوسهن، كثيرات صممن على تعلم لغة البلد المضيف، بإصرار عجيب، قصد البحث عن عمل، وعدم الاكتفاء بمعاش اللجوء الذي يعطى لهن. كثيرات أيضا قرّرن إتمام تحصيلهن العلمي، والتعرف على حقيقة تلك المجتمعات التي كانت، إلى ما قبل سنتين، شبه مجهولة لهن. تحكي تلك النساء تجاربهن لصديقات أو لصحفيات، أو بعضهن يكتبن ما يشعرن به.
الحرب غيّرتهن، لأول مرة تصبح النساء السوريات المسؤولات عن تأمين كل شيء لعائلاتهن، النساء اللواتي في المخيمات في تركيا ولبنان والأردن هن أكثر من تعرّض لهذا. رجالهن غائبون، وعليهن واجب استمرار حياة أبنائهن وحياتهن، وعليهن الخضوع لأمزجة عمال الإغاثة ورغباتهم ونياتهم، وعليهن أيضاً الخضوع لسيطرة العائلة التي يمارسها عجوز ما، ربما هو الأب أو الشقيق، وربما هو والد الزوج أو شقيقه. والأصعب أن يكون صاحب هذه السيطرة هي والدة الزوج أو شقيقته، حيث لم تمنع الحرب وظروف التشرد المؤسسة العائلية المسيطرة من حمل تقاليدها معها، أينما رحلت. تحكي النساء أنهن، طوال حياتهن، وهن يتعرضن للعنف الجسدي واللفظي من ذكور عائلاتهن، عليهن الرضوخ والخضوع لرغباتهم من دون أي نقاش. نادرات منهن التي اختارت حياتها بنفسها. بالتأكيد، ثمّة من وجدت في هذا النمط من الحياة أمراً طبيعياً موافقا للشريعة التي تؤمن بها، وهو ما يستدعي الاحترام، فهي تمارس قناعتها، وتدافع عما تراه صحيحاً، غير أن أخريات كانت لديهن أسئلة، وكن يقاومن ويتعرّضن للعنف، وليس ثمة من يحميهن، لا قوانين ولا جمعيات ولا شيء. الجميع يصمت عن حال النساء المعنفات في المجتمع السوري الذي يحلو لكثر وصفه ووصف مؤسساته السياسية والدستورية بـ (العلمانية).
تتحدث النساء عن التغيرات التي أصابتهن، بعد وصولهن إلى دول اللجوء الأوروبية. تقول إحداهن: بعد مرحلة الكامب، وفهمنا للقوانين، اكتشفنا أن حقوقنا مصانة، وأن رغباتنا جزء من حقوقنا، وإنه لا يحق لأحد هنا فرض ما يريده علينا. القوانين هنا تقف معي، إن تعرّضت لأي عنف، لماذا سأستمر بتحمل الإهانة والضرب والشتيمة؟ في سورية، لم يكن هناك من يمكنه أن يحميني. هنا يحميني القانون، وضمن لي حقي وكرامتي. تقول أخرى: أنا لا أريد أن أنزع حجابي، أنا مسلمة مؤمنة، لكنني أرغب أن أفعل هذا بنفسي، أن أحتفظ به لأنني مقتنعة به، ليس لأنه تقليد إجتماعي. أخرى تقول: نعم، طلبت الطلاق من زوجي، حتى هنا ضربني وشتمني وضرب أولادي وأهانني أمامهم. طلبت الطلاق وغيّرت حياتي، ولن يرى أولاده إلا بالقانون الذي حماني، وحمى أولادي، أول مرة في حياتنا.
حكايات كثيرة ويومية تحدث للسوريات في بلدان لجوئهن الجديدة، يمكنها أن تكون العلامة على رؤية مركبة: لا يمكن لثورةٍ مغلقة أن تنتصر. بمعنى آخر، حركة اللجوء الكثيفة والاحتكاك مع المجتمعات المتحضرة سوف تضع السوريين في مسار آخر مختلف، سيمنحهم هذا أفقاً آخر، لما يجب أن تكون عليه حالهم وحال أبنائهم في المستقبل. الثورات ليست إسقاط أنظمة فقط، هي أولاً حركة تغيير في الوعي الجمعي، وهذا يحتاج إلى زمن طويل لينجز، ويحتاج إلى اكتساب معارف، وتنمية مدارك جديدة لم تكن متاحة سابقاً. النساء في ألمانيا هن من أعدن بناءها بعد الحرب، لدي ثقة مطلقة أن نساء سورية سيفعلن ذلك، حين يتوقف كل هذا الجنون. لم يعدن هن أنفسهن، الثورة وظروف الحرب غيّرتهن بالكامل. ستعود الغائبات يوماً، وسيدلن أبناءهن وبناتهن على ما يجب أن تكون عليه بلادهم.