15 نوفمبر 2024
في مقتل الملك فيصل
عجيبٌ أن تعتصم العربية السعودية 43 عاما بالصمت عن مسؤوليةٍ لجماعة الإخوان المسلمين في مقتل الملك فيصل بن عبد العزيز في العام 1975، ثم يُبلغ ولي العهد الراهن، محمد بن سلمان، الصحافي الأميركي، جيفري غولدنبيرغ، عن ذلك. هذه مفاجأةٌ بلا أي مقدماتٍ من أي نوع، فكل ما نشر بشأن تلك الجريمة، في مختلف المصادر السعودية والغربية، خلا من أي تلميحٍ إلى أي صلةٍ للإخوان أو أي جهةٍ إسلامية، بل إن تخميناتٍ وإشاعاتٍ ذهبت إلى مطارح شتى في المسألة، ولم تقترب من أي متدينين، فيروجُ أن للاستخبارات الأميركية المركزية دورا في قتل الملك، أو أن أبناء الملك سعود الذي خُلع عن الحكم ليتولى فيصل العرش في 1964 وراء الواقعة، أو أن القاتل، الأمير فيصل بن مساعد، أطلق الرصاصات الثلاث على عمّه، انتقاما لقتل أخٍ له في حادثةٍ سابقةٍ في 1965. وأيا تكن الحقيقة، فإن قصة أن "الإخوان" وراء قتل الملك فيصل شديدةُ الغرابة، فبيان المحكمة الشرعية التي قضت بإعدام القاتل جاء على اعترافه بأنه لم يكن يرى داعيا لإقامة الفروض الدينية، كالصلاة والصوم، بل يرى أيضا أن على الدولة أن تمنع الناس من أداء الصلاة في المساجد. وبعيدا عن صحة نسبة هذه الغرائب إلى الرجل أو عدمها، فأن تقولها محكمةٌ شرعيةٌ في بيانٍ معلنٍ ينفي أي صلةٍ ممكنةٍ بين هذا الشخص وأي مجموعةٍ إسلامية، إخوانا أو غير إخوان، وهو الذي يفيد أرشيفه بأنه أقام نحو ثماني سنوات في الولايات المتحدة، طالبا جامعيا وصاحب أفكار ذات هوى راديكالي، وقيل إنه كان على صلة بنشطاء يساريين هناك.
ليس غرض هذه السطور إبعاد تهمةٍ ثقيلة عن "الإخوان المسلمين"، فهم أدرى بكيفيات الدفاع عن أنفسهم، وإنما هو السؤال بشأن ما يقيم في دماغ محمد بن سلمان، ويأخذُه إلى تزيّدٍ غير محسوبٍ في غير شأنٍ ومسألة. يتكلم الرجل كثيرا، ويشرّق ويغرّب على غير هدىً أحيانا، لهذه الصحيفة الأميركية وتلك، ويُشغلنا، نحن الصحافيين والمعلقين، بمطاردة أقواله وحكاياته. وفي الأثناء، قد يدهشنا بعجائب تعصى على أفهام العقل السويّ ومداركه، ومنها استيضاحه غولدنبيرغ عن الوهابية، وماذا تكون بالضبط، لأنه لا يعرفها، ردّا منه على سؤال الأخير له عنها (!). وتنتسب إلى هذه العجائب أيضا خرّافية "الإخوان المسلمين" المفاجئة، وقد حكى عنها صاحبنا بمقدارٍ ملحوظٍ من التفجّع والدرامية الملحوظة، فقد قال إن الملك فيصل "دفع حياته ثمنا محاولا التصدّي لهؤلاء الناس، بعد تغلغلهم ورفضهم تقويم مسارهم". والأسئلة هنا: عن أي شيءٍ يتحدّث محمد بن سلمان بالضبط؟ ليس في سيرة الملك فيصل وتاريخه أنه تصدّى لهؤلاء، أو أنه انشغل بهم؟ من هم الذين أخبروه بهذا الكلام ليطلقه كيفما اتفق؟
أما وأن صحيفةً سعوديةً اعتبرت المقابلة الصحافية مع جيفري غولدنبيرغ "مكاشفةً تاريخية"، ففي وسع المرء أن يُوازي هذه "المكاشفة" بأخرى من النوع الذي يشتمل على المعنى الصحيح في هذه التسمية، فيسأل مثلا: ألا يقتل محمد بن سلمان عمّه الملك فيصل وموروثه، ثانية، في حزمة التصريحات التي أشهرها في المقابلة نفسها؟ قال الراحل علنا، وفي بيان باسم ديوانه الملكي أيضا، في غضون حرب 1973، إن حكومته تبذل جهدها "لكي تعدّل حكومة الولايات المتحدة موقفها الحالي من الحرب الدائرة بين الأمة العربية وإسرائيل، ومساعداتها الحربية، وإذا لم تسفر هذه المساعي سريعا عن نتائج ملموسة، فستوقف المملكة تصدير البترول إلى أميركا". تُرى، ألا يعاكس محمد بن سلمان هذه الروحية، عندما يُغدق على الولايات المتحدة، في زمن أسوأ إداراتها عنصريةً ودعما لإسرائيل، صفقاتٍ سخيةً، تجعل دونالد ترامب لا يجد حرجا في إشهار المملكة مستودع أموالٍ وحسب؟
وصف ولي العهد الملك فيصل بأنه أحد أعظم ملوك المملكة العربية السعودية. والمأمول من صاحب هذا القول أن يهتدي ما أمكن بهذا الملك الذي كان يستفظع أي اعترافٍ من أي عربي بإسرائيل، وكان عن حقٍّ مدافعا عن قضية فلسطين، وقد تجاوز خلافاته مع جمال عبد الناصر، عندما خصّ مصر بمساعداتٍ سنوية بعد هزيمة 1967، وكان دوره عروبيا في حرب 1973، فسمّاه أنور السادات بطل معركة العبور. تُرى، ماذا سنسمّي محمد بن سلمان، وقد أخذته مناطحة "الإخوان المسلمين" إلى العجيب الغريب؟