في وداع عبد الغني عماد
يعد الأكاديمي اللبناني، عبد الغني عماد، من أهم الباحثين وعلماء الاجتماع العرب على مدى عقدين، قدّم خلالهما عصارة أفكاره في مشاريع بحثية غاية في الثراء المنهجي والعلمي والمعرفي، وقضى شطرا كبيرا من حياته في قاعات التدريس، ومشرفا على رسائل الماجستير والدكتوراه، عدا عن حضوره اللافت في المؤتمرات العلمية واللقاءات الحوارية. غادرنا بعد هذا كله، وبكل هدوء وصمت ومن دون ضجيج، بمرضه المفاجئ الذي اعتراه أخيرا، ونصحه الأطباء بالابتعاد قليلا عن أجواء البحث والقراءة والكتابة، لكنه ظل، حتى لحظاته الأخيرة، عاكفا على الكتابة والتدوين والتأمل والبحث، وأنتج كتابيه المهمين "جينالوجيا الآخر، المسلم وتمثلاته في الاستشراق والأنثروبولجيا والسوسيولوجيا"، و"سوسيولوجيا الهوية، جدلية الوعي والتفكيك وإعادة البناء"، الذي يعتبر من أهم الكتابات الاجتماعية خلال هذه المرحلة العربية الأكثر تعقيدا وتشظيا.
للراحل مساهمات علمية عديدة، وخصوصا في علم الاجتماع، مجال تخصصه الأكاديمي، وقد ظل فترة طويلة عميدا لمعهد علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية. ومن أهم مساهماته الأكاديمية كتابه "منهجية البحث في علم الاجتماع، الإشكاليات والتقنيات"، وكتابه "الهوية والمعرفة، المجتمع الدول"، وهو في علم اجتماع المعرفة والاتجاهات الحديثة والمقاربات العربية في هذا السياق، فضلا عن كتاب "سوسيوجيا الثقافة المفاهيم والإشكاليات .. من الحداثة إلى العولمة". ولا مبالغة في القول إن عبد الغني عماد ربما يكون السيوسيولوجي العربي الأكثر إنتاجا في مجاله وتطبيقاته البحثية في الواقع العربي الراهن. ساهم في مشاريع بحثية عربية رصينة عديدة، من أهمها موسوعة "الحركات الإسلامية في الوطن العربي"، الصادر في مجلدين كبيرين عن مركز دراسات الوحدة العربية، وكذلك موسوعة "الثقافة العربية في مئة عام"، وهو من أهم الأعمال البحثية في مجاله ربما في العقدين الماضيين.
ربما يكون السيوسيولوجي العربي الأكثر إنتاجاً في مجاله وتطبيقاته البحثية في الواقع العربي
كتب عبد الغني عماد أيضا في الحركات الإسلامية الكثير، وخصوصا في الحالة اللبنانية التي كتب فيها "الحركات الإسلامية اللبنانية"، و"إشكالية الدين والسياسة"، وكتب عن الحالة السلفية اللبنانية في كتابه "السلفية والسلفيون، الهوية والمغايرة قراءة في التجربة اللبنانية". ويعد كتابه "الإسلاميون بين الثورة والدولة، إشكالية بناء النموذج وبناء الخطاب" من أهم كتبه في الظاهرة الإسلامية، وقد أنجزه على خلفية مآلات الربيع العربي، وكتب دراسات عديدة عن العنف والثقافة وتكنولوجيا الاتصال، وكلها دراسات علمية اجتماعية قيمة.
أما عن عبد الغني عماد الإنسان، فمن اقترب منه وجده غاية في التواضع والزهد والبساطة التي تعكس عمقا علميا وإمتلاء معرفيا كبيرا، ينعكس في سلوكه المتواضع، وإصغائه للمتحدث إليه بأدب واحترام جم، فقد عملت معه أكثر من عامين في مشروع موسوعة الحركات الإسلامية في الوطن العربي، وكنت على تواصل دائم معه، فتذهلك بساطة الرجل وسهولة التعامل والنقاش معه، على الرغم من انشغالاته الكثيرة. والتقيته، في مؤتمرات وندوات علمية في أكثر من عاصمة، فزداد قربنا من بعض وتوطدت صداقاتنا أكثر فأكثر، على الرغم من أنني تلميذ أمام معلمه، واستفدت كثيرا من كتاباته وتوجيهاته بين حين وآخر، وملاحظاته على ما أكتب هنا أو هناك، وكان يغمرني بإطرائه كثيرا.
مساهماته العلمية عديدة، وخصوصا في علم الاجتماع، مجال تخصصه الأكاديمي
وعلى الصعيد السياسي، كان للفقيد موقف واضح من قضية الفساد والاستبداد في العالم العربي، وكان دائم الحديث عن أن ضريبة الصمت الطويل عن الفساد والاستبداد ستكون فاتورتها كبيرة وباهضة، ولهذا كان يرى ارتدادات ثورات الربيع العربي طبيعية، لحجم الفساد والاستبداد الجاثم على شعوب المنطقة العربية، ولهذا لن تذهب هذه التضحيات سدى، وإنما ستأخذ مداها حتى تثمر دولة المساواة والعدالة والقانون والحرية والكرامة.
رحل ابن طرابلس بهدوء، وهو في قمة عطائه الفكري، رحل بصمت كما عاش بصمت المتأمل والمفكر الذي يشرّح الواقع من دون تبرم أو تأفف. رحل طبيب الواقع العربي، الطبيب الذي كان يرى مهمته الأساسية وصف العلاج، وعلى المريض أن يتناول علاجه بكل حرية، ومن دون أي وصاية أو ضغط من أحد، فالمريض أعرف بما يفيده من دواء. كان دائم الحديث عن أهمية المقاربات الاجتماعية في فهم تعقيدات الواقع العربي المعاصر وإشكالاته، وأن المقاربات الاجتماعية هي المدخل الحقيقي لوضع الحلول والتصورات لكثير من هذه الإشكالات، خصوصا ما يتعلق بأزمتي السلطة والتعليم في العالم العربي وأزمة الثقافة أيضا.
كان دائم الحديث أن فاتورة ضريبة الصمت الطويل عن الفساد والاستبداد ستكون كبيرة
رحيل عبد الغني عماد في مرحلة كهذه، وفي عمره هذا، خسارة كبيرة على اللحظة العربية الراهنة، لما مثله الرجل من حضور جسّد فيه دور المثقف الذي إن خانه واقعه لا تخونه أفكاره وحفرياته الفكرية في طرحه ومساهماته النوعية التي ستمثل خريطة أفكار للأجيال من بعده، الأجيال التي لا ينبغي أن تبقى بلا خريطة طريق، كي لا تتقاذفها الأمواج العاتية والتيارات المختلفة. نسأل المولى أن يتغمد أستاذنا في واسع رحمته، ونتمنى أن تجد مشاريعه البحثية غير المنشورة طريقها إلى النور، فقد مثل بحق رمزا للمثقف الحقيقي الذي لا يكتفي بالتأمل، وإنما يزاول الحفر المعرفي العميق في العلل العربية المتراكمة وأسبابها وحلولها.